طلال سلمان

قمة غياب عن قضاياها

لم تعد القمة العربية »خبراً« يستحق الاهتمام والتوقف عنده، لا عند »المسؤول« العربي ولا عند »المواطن« العادي، ولا حتى عند »الصحافي« أو »الإعلامي« بعامة… اللهم إلا في ما يتصل ببعض »الفضائح« أو »الطرائف« التي تؤكد سقوط هذه »المؤسسة« التي أريد منها محاولة إنعاش أو إعادة بث الروح حتى لا نقول »بعث« جامعة الدول العربية التي لولا حيوية أمينها العام وعناده (وربما مكابرته) لصارت نسياً منسياً…
وبرغم العناد الجزائري على توكيد النجاح، في عقد القمة، في قصر الصنوبر وهو مجمع جميل الموقع، أنيق البناء، فسيح الأرجاء بفيلات متعددة تتكوكب حول القاعة المركزية للمؤتمرات فإن النتائج المتوقعة لن تكون »أقل« من نتائج القمم السابقة، إذ لا مجال »للأقل«… فكل بلد مضيف كان يسعده أن تفتتح القمة بأكبر عدد ممكن من الملوك والرؤساء، وأن تنتهي بأقل عدد ممكن من الخلافات والتفجرات الارتدادية. اللهم، حسن الختام! ذلك هو الشعار »السياسي« الأثير لكل قمة. وحسن الختام بيان مكتوب بتلك اللغة السحرية التي تكثر من الكلمات حتى يذهب المعنى تماماً!
المهم أن تبقى المشكلات التي من شأنها أن تذهب بصورة التوافق خارج القمة، فلا تنسفها قبل أو خاصة خلال انعقادها… وهكذا يوكل إلى أصحاب الاختصاص أن يختاروا من الكلمات ما يومئ ولا يفصح، ومن العناوين ما يظهر حرص القادة على الحاضر والمستقبل وما بينهما، وعلى استذكار القضايا التي تهم الأمة كافة، قديمها الدائم مثل فلسطين، وجديدها الطارئ مثل السودان، والقديم المتجدد مثل مشكلة الصحراء المغربية، فضلاً عن الصومال ومسألة الجزر الثلاث العائدة للإمارات والتي تحتلها إيران… إلخ.
لكن هذه الصورة عن القمم العربية ليست دقيقة تماماً: فمع كل قمة كان يتم التنازل عن بعض الجوهر في القضايا الأساسية المطروحة، مع مراعاة أن يبقى الشكل بعيداً عن استفزاز »الجمهور« واستعدائه ضد القمة والجامعة والملوك والرؤساء والقادة من صناع التاريخ المعكوس.
اليوم بات لهؤلاء القادة الأفذاذ عذر جديد للتنازل في الجوهر مع الحفاظ على شكل غير مستفز (توفره مرونة اللغة وحذاقة التصريحات): العذر هو طغيان الإدارة الأميركية وتفردها بالقرار الدولي. يتصل بهذا العذر طبعاً التنويه بالقوة الأسطورية لإسرائيل مقابل التفكك والتشتت والضعف العربي.
وهكذا فبين القمة والقمة يضيع المزيد من جوهر القضية الفلسطينية، التي لم تعد »قضية العرب الجامعة« كما لم تعد موضوع إجماع عربي، بل هي لم تعد »قضية« بل تكاد تصبح مسألة تنازع على الصلاحيات (والأرض) بين »السلطة الفلسطينية« وبين دولة الجبروت الإسرائيلي، يمكن أن يلعب بعض القادة العرب دور »الوسيط النزيه« فيها، فيعملون على جمع الطرفين برعاية أميركية دائماً لحل النزاع سلمياً… ودائماً على حساب فلسطين الشعب والقضية وحلم الدولة.
لم يعد على جدول أعمال أية قمة عربية قضية تحمل عنوان فلسطين. تشظت القضية فضاع أساسها وتبقى منها بعض التفاصيل: المستوطنات، الجدار الفاصل، الجلاء عن أريحا، تسليم مداخل طولكرم إلى »السلطة«، مناقشة إمكان الإفراج عن بضع مئات من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية (غالباً ما تختارهم حكومة شارون من مرتكبي الجنايات والجنح… ومخالفات السير)!
ولم تعد الجامعة، ومن ثم القمة، المكان الصالح لفض الخلافات الثنائية بين الدول العربية… كما لم تعد مصدر الأمل في الارتقاء بالعلاقات البينية ولو إلى الحد الأدنى من التنسيق حتى لا نقول التكامل. أي أن هذه المؤسسة بمستوييها باتت عاجزة عن حماية الأمل بإنجاز ما يحفظ للعرب الحد الأدنى من الترابط والتكافل والتضامن، تأميناً لمصالحهم المشتركة.
صارت رياح الخلافات أقوى من جهود التسوية. لم تعد الدول تتلاقى إلا عبر الأميركي وبتوجيه منه، وتلتزم بتعليماته. لم تعد كلمة »العرب« واقعية. صارت الكيانات أقوى من المشاعر والأماني والطموحات. وصار لكل كيان وظيفته في المشروع الأميركي، لا حكمه يستطيع أن يرفضها، ولا هو يريد أن »يتحرر« ملتحقاً بركب العروبة الذي تاه في صحراء الخيبات والهزائم وتمزق الشعارات.
صارت إسرائيل طرفاً مقرراً في الشؤون العربية. صار لإسرائيل
حق »الفيتو« على اجتماع الدول العربية في قمة، ولم يعد سراً أنها تشارك في قبول أو رفض موعد انعقادها وجدول أعمالها، ولو بلسان أميركي.
وعلى هذا فلا تلام قمة الجزائر على قصورها عن الإنجاز.
لا تلام على قفزها من فوق المسألة العراقية، إذ إنها من اختصاص الإدارة الأميركية، وعلى انحدارها إلى تفاصيل العلاقات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، إذ إنها »شأن داخلي« للدولة التي كانت »العدو القومي« للعرب جميعاً والتي يتباهى وزير خارجيتها الآن بأن عشر دول عربية تتزاحم على بابه…
ولا يؤخذ عليها تجاهلها للمشكلات التي فجرت السودان وتكاد تجعله دولاً عدة، طالما أنها قد تعامت أو حوّلت نظرها إلى الجهة الأخرى بينما كان هذا البلد العربي يتمزق أمام عيون العرب العاجزين فيتفتت كيانه السياسي وتُدفع عناصره المكوّنة إلى الاقتتال ويكاد شعبه الطيب يغرق في دمائه المسفوحة.. ولا قضية! ثم يكون الختام اتهامه بشن حرب عنصرية بل حرب إبادة ضد »أقليات« اكتشفها الأميركيون حديثاً!
* * *
يمكن الاستطراد إلى ما لا نهاية في توصيف عجز القمة عن التحول إلى مؤسسة مؤهلة وقادرة على جمع »العرب« وحل الإشكالات والمشكلات التي تتزايد وتولد المزيد من أسباب التفكك والانهيار…
وعلى هذا فليس المتوقع من قمة الجزائر أن تتحدى »الواقع الموضوعي« للدول العربية فتنجز ما ينتظر أو ما يأمل أو ما يحتاج اليه »العرب«، مع التسليم بأن كلمة »العرب« لم تعد تعني ما كانت تعنيه من أمة واحدة ذات مصالح مشتركة وذات طموح مشترك إلى مستقبل أفضل.
المهم تحديد الخسائر… ولعل صد المناقصة الأردنية في المسألة الفلسطينية يسجل في هذه الخانة، وكذلك تجاهل المسألة العراقية وترك المسألة اللبنانية لهمسات النصح لذوي الشأن بحلها في ما بينهم وبأسرع وقت ممكن.
وهكذا تكون قمة الجزائر قد نجحت تماماً… برغم غياب الرئيس اللبناني عنها، وهو الذي يمكن اعتباره »المبدع« في تحويل النجاح إلى فشل ذريع! ومن هنا فقد سجل اسمه في خانة »المميزين« الذين يمكن ترشيحهم لدخول موسوعة غينيس في تسجيل الأرقام القياسية في النجاح!
مع ذلك يبقى السؤال قائماً: كيف تسنى للقمة أن تنعقد، وأن تنتهي ولو ببيان بلا معنى، ورئيس لبنان الذي يتفجر بركاناً من رفض الواقع والإصرار على التغيير، غائب عنها بقدر ما هو غائب عن وطنه.

Exit mobile version