طلال سلمان

قمة عربية وقاتل اخية

يستحق وزراء الخارجية العرب التهنئة على إنجازهم الفريد: لقد اجتمعوا أخيراً!!
لا يهم أن يكونوا قد اخترقوا المستحيل، متمثلاً بتعليمات قادتهم المحددة جداً والتي يتعذّر معها الخروج بموقف موحد، فاتفقوا على عدم الاتفاق، أو أن يكونوا قد اختلفوا، كالعادة، ودارَوا فشلهم ببيان حمّال أوجه، كلماته متجاورة ودلالاتها شتى..
المهم أنهم اجتمعوا، وأخذوا الصور التذكارية مع وفد الاتحاد الأوروبي الذي جاء ليعلن تضامنه معنا فافتقد تضامننا مع أنفسنا، وعساه يتستر على عيوبنا فلا يفضحنا أمام دوله وشعوبه التي تبدت في مسلكها »أكثر عروبة من العرب«!
وكيف كان يمكن أن يتفق هؤلاء الوزراء على قرار برفض الحرب الأميركية، والامتناع عن تقديم التسهيلات للقوات الأميركية التي تتدفق على »قواعدها« في »بلادنا«، وثمة قواعد معلنة لهذه القوات في مختلف دول الجزيرة والخليج، وصولاً الى اليمن، و»سرية« في دول أخرى بينها الأردن، بل إن قيادة عملياتها العسكرية آمنة ومستقرة في بعض هذه الدول، كما أن في بعضها من الجنود الأميركيين أكثر من عديد جيوشها، هذا مع استثناء حاملات الطائرات والصواريخ بعيدة المدى والقاذفات عن بُعد بعيد؟!
المهم أن الوزراء قد اجتمعوا، أما الاتفاق على قرار فقد ربطوه، كالعادة، بالقادة.. ومن أسف أن العديد من هؤلاء القادة سيكونون في شغل شاغل عن أمر الحرب الأميركية على العرب في العراق (والإسرائيلية على فلسطين)، حتى إشعار آخر، لذلك ترك لهم وزراؤهم أمر الاتفاق على الموعد المرتجى، ومن ثم على جدول الأعمال، وبعد ذلك على طبيعة القمة وهل تكون عادية أم استثنائية.. والله ولي التوفيق!
فضيحة جديدة؟ نعم!
فعلى امتداد الشهور القليلة الماضية، ومنذ أن قررت الإدارة الأميركية المتصهينة أن العراق هو »الخطر الجديد« على الحضارة الإنسانية والنظام الكوني، عقد قادة العالم، بشرقه وغربه، قمماً عدة، دورية واستثنائية، ثنائية وثلاثية ورباعية… وعقد حلف الأطلسي عشرات الاجتماعات على مستويات متعددة، بعضها رئاسي وبعضها وزاري، بعضها عسكري وبعضها على مستوى السفراء والخبراء!
شقت الإدارة الأميركية أوروبا إلى »قديمة« و»جديدة« واستفزت شعوبها فخرجت بالملايين تتظاهر ضد هذا الطاغية الكوني الجديد المتعطش إلى الدم (العربي!)،
ووصلت »الحرب« إلى مجلس الأمن الدولي فقسمته إلى أكثرية معترضة، بحزم، وإلى »أقلية أميركية« تبدّت في مواجهة العالم غير جديرة بقيادته… وصار وزراء خارجية الدول العظمى لا يكادون يغادرون اجتماعاً طارئاً في نيويورك حتى يعودوا إليه ليطرحوا خلافاتهم بلا مواربة، وليتجادلوا أمام شعوب الأرض جميعاً، وليحاصروا جنون الحرب الأميركي البريطاني بالإرادة الصارمة: لا للحرب!
ولولا الموقف السوري الشجاع في مجلس الأمن، الذي أنقذ ما يمكن إنقاذه من سمعة العرب وكرامتهم، وأعاد التذكير بأساس القضية، في فلسطين بداية، ثم في العراق، مجاهرا باسم العرب جميعا برفض الحرب، وبضرورة تطبيق القرارات الدولية بحظر أسلحة الدمار الشامل على إسرائيل النووية، والمستثناة دائما بفضل الحماية الأميركية…
لولا هذا الموقف السوري الشجاع، الذي عاد أمس فاستنقذ الحد الأدنى من التوافق العربي على رفض الحرب الأميركية، ولو بإحراج »الأخوة« الذين تأمركوا فصاروا أكثر حرصا على المصالح الأميركية من إدارة جورج بوش نفسه.
لولا هذا الموقف المعزّز بتأييد لبنان وقلة من الدول العربية القادرة بعد على رفع صوتها بالاعتراض، لاكتملت عناصر الفضيحة، إذ كان سيتبدّى وكأن بعض العرب يشاركون في أكل لحوم أخوتهم، ويتواطأون على سلامة واحدة من أخطر دولهم، العراق، وعلى حياة شعبه العظيم المهدد بالدمار الأميركي الشامل.
كذلك فلولا خروج جماهير الشعب في سوريا ولبنان، يوم السبت، معبّرة عن رفضها هذا العدوان الأميركي البريطاني الجديد على شعب العراق، لتبدّى وكأن الشعوب العربية ذاتها تقر حكوماتها على تواطئها.. ولن يكون عذرها في أنها مقموعة مقبولا عند شعوب العالم، التي خرجت في العديد من العواصم تهزّ قبضاتها في وجه حكوماتها المنتخبة ديموقراطيا (بريطانيا، إيطاليا واسبانيا، على سبيل المثال) وتهدد بإسقاطها، حتى لا تسجل على نفسها أنها وافقت على قتل شعب وتدمير مقوّمات الحياة لأمة كاملة، بغير مبرر، وبغير خطأ ارتكبه هذا الشعب العربي وأمته »القديمة«.
للمناسبة لا بد من التنويه بأنه لم يكن بين قادة الدول الأجنبية المعترضة، أو المواطنين مختلفي الجنسيات والأمزجة، أبناء أوروبا القديمة وآسيا الأقدم منها، من هو معجب »بديموقراطية« صدام حسين… لكن الجميع رأوا في الاندفاعة الأميركية الحمقاء حربا على شعب العراق، فجهروا باعتراضهم ورفضهم هذه الجريمة!
بالمقابل لم يكن بين هؤلاء من هو معجب أو مسلّم »بألوهية« جورج بوش وإدارته التي تؤكد بلسان معظم أركانها ولعها بالدم… العربي!
وفي مفاضلة فجّة يمكن القول إن المسؤولين من أعضاء مجلس الأمن، كما الجماهير الغاضبة التي نزلت الى شوارع الثلج، كانت ترى العراق وشعبه المهدد بالقتل الجماعي متجاهله نظامه، أو تاركة أمر هذا النظام لشعب العراق، في حين أنها كانت ترى جورج بوش وإدارته المصابة بلوثة الدم وتعترض عليهما، بغير أن ترى في موقفها عداء للولايات المتحدة الأميركية وشعبها الذي لم يُعرف بعمق فهمه السياسي.

أما المسؤولون العرب المستسلمون للقدر الأميركي فإنهم يتذرّعون بصدام حسين وينسون الشعب العراقي، كما تناسوا وما زالوا يتناسون شعب فلسطين حتى »لا يستفزّوا« السفاح أرييل شارون وحليفه المتصهين جورج بوش… وبالتالي حتى يتنصلوا من أبسط موجبات التزامهم الوطني قبل القومي.
وبالتأكيد فإن صدام حسين يرتكب خطأ سياسياً قاتلا اذا ما قرأ في هذه الهبة الشعبية الغاضبة غرباً وشرقاً، وفي القليل من الاقطار العربية، تأييداً له يغريه بمواصلة نهجه المرفوض.
كذلك يخطئ القادة العرب اذا ما قرأوا هذه التظاهرات وكأنها تعوّض غيابهم او تعفيهم من المسؤولية في ابتداع المخرج التسوية لمنع الحرب، من دون التبجّح ادعاء بأننا قد ألحقنا هزيمة ساحقة بجورج بوش وتابعه البريطاني طوني بلير وشريكه الاسرائيلي أرييل شارون.
* * *
لم يفشل اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، امس.
لقد كشف المواقف، وهذا أضعف الايمان.
ومع ان معظم هذه المواقف المتخاذلة الى حد التواطؤ مع الادارة الاميركية في مشروع حربها على العراق، معروف، بل ومعلن احياناً، الا ان المواجهة التي لا بد قد حدثت في قلب الجامعة امس، ستفضح هؤلاء المتواطئين، وستعزلهم، وستضعف بالتالي قدرتهم على ادعاء الحديث باسم العرب، بما في ذلك شعوبهم المغلوبة على امرها.
ان قضية في مثل خطورة الحرب المدمرة لبلد عربي عظيم كالعراق تستحق »الانشقاق« فالمنشق سيضبط بالجرم المشهود: قاتلا لاخيه!
والمنشق المنبوذ لن ينفع حتى سيده الاميركي، بل هو سيتحوّل إلى عبء عليه.
والحرب العربية على الحرب الاميركية على العراق ما تزال في بداياتها، وستكون جولاتها المقبلة أقسى وأمرّ.
وقد تمضي الادارة الاميركية قدماً في ارتكاب جريمتها، لكن هذه الجريمة الجديدة ستكون نقطة بداية جديدة لحقبة مختلفة من »المقاومة« العربية لاثبات الذات والجدارة بالحياة!

Exit mobile version