طلال سلمان

قمة طارئة ومناخ 1948

لم تستطع فلسطين الوصول بجراحها النازفة إلى القمة العربية الطارئة التي عُقدت هنا في القاهرة باسمها وتحت لافتة المبادرة إلى نجدتها..
ولم يستطع »الشارع العربي«، بكل تظاهراته الغاضبة وكل رفضه للسائد من السياسات العربية الرسمية تحت عنوان »العملية السلمية« التي ثبُت بالوجه الشرعي انه من دون مضمون، إخراج إسرائيل من هذه القمة التي فرضها جنون الدم الإسرائيلي، واستطرادا إخراجها من »القرار السياسي« العربي.
حتى من قبل أن يطلق إيهود باراك إنذاره الجديد، الذي أكد جديته باغتيال عشرة من الفتية المبشرين بالجنة، كانت الأكثرية من »طابخي« قرارات القمة تجادل ساعات طويلة لتمنع صياغة قرار جدي يؤكد العزم على الرد على التحدي بما يناسبه وان لم يرقَ الى مستوى القطع الكامل مع »العدو« الذي اقتحم بعض العواصم العربية واستقر فيها تحت عنوان »السلام« مع أنه لم يتوقف يوما عن الحرب.
ما أبعد »مصر الجديدة« عن القاهرة.
بعيدة لدرجة أن البعض يرى في القمة العربية مجرد »كاتب بالعدل« مهمته أن يصادق على ما قررته »قمة شرم الشيخ«، ودائما بذريعة »إنقاذ العملية السلمية«.
وبعيدة لدرجة أن بعضا آخر يزايد فيعتبر ان القمة العربية مدينة بانعقادها لقمة شرم الشيخ، فهي التي نزعت الفتيل وسحبت »الانتفاضة« من جدول أعمال القمة الطارئة!
ومطالعات الدفاع عن شرم الشيخ تنسف الأساس الموضوعي لقمة القاهرة: فإذا كان ما تم هناك قد حقق ما طلبه وأراده »الفلسطيني«، ولو بصياغة ملتوية، فإن أي موقف مبدئي أو حازم هنا سيُعتبر نوعا من المزايدة، أو »الانفعال الذي لا يليق بالملوك والرؤساء«، وإن هو اتخذ شكل الاستجابة لنبض الشارع فسيكون »تهورا قد يدمر كل المقومات والانجازات التي حققتها الدول العربية، والعياذ بالله«.
المواجهة مستحيلة، لأن أحدا لا يريد الحرب ولا يقدر عليها.
وإسقاط الخيار الاستراتيجي بالسلام تطرف لا مبرر له.
وقطع العلاقات السياسية مع إسرائيل »غلط سياسي« لأنه يقطع قنوات الاتصال معها التي يمكن أن تؤثر فتلجم جنون الدم عند حكومتها (المتهالكة بل المنتهية والتي يحاول باراك تجديدها بإثبات أنه الأكثر قسوة ودموية من جميع سابقيه..).
أما المقاطعة الاقتصادية فخرافة لأنها تعني التصادم مع الغرب كله، بالأميركيين فيه والأوروبيين، الذين تتخفى الشركات والمؤسسات الإسرائيلية والمساهمون الإسرائيلون فيهم وعبرهم.
ماذا يتبقى من الأسلحة، إذاً؟!
بل ماذا يتبقى من مقومات الصمود؟!
لا شيء… اللهم إلا إذا اعتبرنا التلويح الملفوف جيدا حتى ليمكن اعتباره »مضمرا« وأقرب الى الوعود المبهمة المنتزعة بالإحراج، قرارا يليق بثورة القدس والمئة وثلاثين شهيدا والأربعة آلاف جريح!
… ويليق بالتظاهرات التي اجتاحت الوطن العربي من أقصاه في اليمن إلى أقصاه في المغرب، وصولا الى تلامذة المدارس الابتدائية في المدارس الأجنبية في القاهرة ذاتها!
لكأن القمة الطارئة في خريف العام 2000 ستنزل بقراراتها تحت قرارات سابقتها التي »طرأت« في ربيع العام 1996!
المفاجئ حتى لا نقول الصاعق في هذه النتيجة، أن »الفلسطيني« الذي كان بانتفاضته المجيدة »العذر« في انعقاد هذه الطارئة، سيكون هو »الذريعة« في التملص من أي قرار حازم وجدي يتناسب مع خطورة اللحظة السياسية والدم المراق من أجل تخطي الميوعة المهينة في الموقف الراهن.
بعض العرب يقول: إنما نبقي على العلاقة مع إسرائيل من أجل الفلسطيني، ومن أجل حمايته.
وبعض العرب يزيد فيقول: إنما نبقيها لأن الفلسطيني لم يطلب قطعها، فضلاً عن اننا أقمناها بناء لرغبته.
أما البعض الثالث فيزيد على القولين ما يحرج أكثر: إذا ما قطعت مصر والأردن فلسوف أخرج إلى الصحافيين على الفور لقطع علاقات بلادي بإسرائيل!
الخلاصة ان أصحاب الموقف الذي يليق ولو بالحد الأدنى بمطالب »الشارع العربي« وبالدم الذي جلل ثورة القدس، سيظلون »أقلية« تضم إلى جانب سوريا ولبنان اليمن والسودان… أما الأكثرية فستكون في الجانب الآخر، بينما ستكون السعودية »الجسر« الذي يشد كل طرف إلى »الحل الوسط« المعقول والمقبول، وربما ساندتها الجزائر.
صار السؤال مشروعا: لماذا القمة إذاً؟ وطارئة؟!
رئيس القمتين، حسني مبارك، لا يبدو محرجا على الإطلاق.. وهو قد أدلى خلال الأيام الثلاثة الماضية بأكثر من حديث متلفز عبّر فيها عن ارتياحه لما استطاع تحقيقه في شرم الشيخ، وعن اطمئنانه الى اعتدال ما سوف يصدر عن قمة القاهرة منسجما مع العقل والمصلحة!
ولا أحد يريد أو يرغب في تفجير هذه القمة التي تجيء بعد طول انقطاع… وهذا ما يفسر »الصبر« الذي تحلى به أصحاب الموقف القائل بضرورة ردع »جنون الدم« الإسرائيلي وجعلهم يناقشون ويجادلون ويتحملون هجمات »المناقصين« على امتداد عشر ساعات استهلكت معظم ساعات نهار الخميس (أمس الأول) ولم تنته إلا في العاشرة ليلا.
العملية السلمية باقية، والمهدِّد بوقفها هو الإسرائيلي، والأكثرية الساحقة حريصة على استمرارها، بالعذر الفلسطيني ومن دونه، وان كان يفيد كذريعة يصعب تسفيهها أو رفضها.
والمطالب الفلسطينية لا تتجاوز لجنة التحقيق إلا الى الدعم المادي المباشر وبين عناوينه »تأمين فرص عمل لمئة وعشرة آلاف عامل كانوا يعملون في إسرائيل«، ومعظمهم في بناء المستوطنات والخدمات التي يرفض الإسرائيليون بمن فيهم الفالاشا أن يقوموا بها.
ماذا سيقول أهل القمة للشارع؟!
وكيف يردون على مناخ 1948 الذي يسود الوطن العربي؟!
البعض يرفض تشبيه هذه الطارئة بقمة انشاص، أو بقمة بلودان، وقد كانتا من العناوين المتممة لنكبة فلسطين.
لكن المنطق يفرض سؤالاً محدداً: ماذا لو لم تهدّئ نتائج هذه القمة الشارع العربي، مع التنويه بأنها قد تزيد من خيباته ومراراته وبالتالي من احتمالات انفجاره؟!
ولعلها قد تفرض سؤالا ثانيا: وماذا لو تواصلت الانتفاضة وتجاوزت السلطة، خصوصا مع التصعيد الإسرائيلي في العنف والقتل والتدمير، وهو ما يبدو مؤكدا… مع التنويه بأن أصدقاء واشنطن لن يجدوا في البيت الأبيض من يرجعون إليه ولو بالشكوى بعد اليوم؟!
مرة أخرى سيظل الجواب في الشارع.
فبعد النزول الى القمة يتعزز الاحتمال بالصعود الى الشارع الذي خرج نهائيا من نفق »العملية السلمية« بعدما تأكد له بالدم انه لا يؤدي إلا الى افتقاد القيمة والأهلية والجدارة بالحاضر، فكيف بالمستقبل؟!

Exit mobile version