طلال سلمان

قمة خارج حرب خارج »السلام« اسرائيلي

بادرنا سائق التاكسي الذي نقلنا من »مصر الجديدة« إلى »القاهرة« وقبل أن يتعرّف إلى هوياتنا: » حاجة تكسف… يا ويلهم من ربنا.. يا ويلهم من دمك يا محمد الدرة. شفتوه وهمه بيقتلوه. ده ولا السفاحين«!
لم يعلق أي منا، فأضاف السائق المستفز بفجيعة ما يسمعه من المقررات وعنها من الاذاعة المفتوحة على مداها: »كل هذا الدم في فلسطين، كل هؤلاء الشهداء، وهذا الكلام الفاضي للقادة العظام؟! دول ما يختشوش! دول خايبين ومرعوبين وما ينفعوش لا في الحرب ولا في السلام. قال سلام قال… يا سلام سلِّم!«.
في هذا الوقت تماما كان الملوك والرؤساء العرب المنهكون بعد 36 ساعة من الاجتماعات واللقاءات الثنائية والمناقشات والمداولات ومحاولة تعديل بعض الفقرات واللعب على الكلمات، يقفون للصورة التذكارية مبتهجين قبل أن يودع بعضهم البعض، متواعدين على اللقاء في آذار المقبل، في مؤتمر القمة العادي، والذي سيكون الأول في برنامج اللقاء الدوري السنوي لهذا التجمع الفخم ذي الطابع العربي الشمولي، حتى لا نقول »القومي«.
* * *
» لقد عدنا إلى أواخر الأربعينيات. وبصراحة، فإن إسرائيل قد أجبرتنا على العودة إلى الحرب المفتوحة كارهين! لقد قتلت أسطورة »السلام« الممكن، وأكرهتنا على التسليم بأنه صراع مفتوح سيظل ينتقل من جيل إلى جيل، ولن ينتهي لا باتفاق إذعان، ولا بخسارة حرب أو حربين، هذا إذا ما سلَّمنا بأن الحرب ممكنة، فضلاً عن إمكان حسم الصراع عسكريا..«.
الصورة واضحة بحيث لا بد أن يجيء بيان القمة ضعيفا ومرتبكا.
ليست الحرب واردة ولا حتى كاحتمال قد تضطرك إليه إسرائيل.
لكن الصورة التي تأكدت لمرة أخرى ودائمة أن إسرائيل »عدو« حتى لو سالمتها، وأنها »المحارب الدائم«، أو الجسم الغريب المحكوم بالحرب كشرط لبقائه و… سلامته!
كذلك فقد تأكدت الصورة الأخرى المتممة أو الوجه الآخر للصورة: ان الغرب، بشخص الدولة الأقوى فيه، هو السند الدائم لهذا المشروع الغربي في المنطقة أو في الأرض العربية، والحرب تمتد من »القاعدة« هنا إلى »المركز« هناك، سواء أكان المركز في لندن أم تحوّل إلى البيت الأبيض في واشنطن.
الكل يدرك الآن أن فلسطين تملأ عليه شارعه ومكتبه وبيته. تطل من عيون أبنائه، ومن لوم زوجته المهموس أو المعبّر عنه في كل حركة والتفاتة.
ومرة أخرى، تداخلت فلسطين القضية، مع هموم الناس اليومية في كل قطر من هذه الأقطار المثقلة ظهور حكامها بالأزمات المفتوحة على الخطر في المجالات كافة: السياسية منها، حيث فلسطين تفتح بابا لديموقراطية إجبارية ما، فتخرج التظاهرات ويكتب المفكرون ويغني الشعراء الخ.. والاقتصادية، حيث يمكن للفقراء أن يصرخوا من جوعهم باسم فلسطين »فلا أنتم تحاربون لتحريرها ولا أنتم توفرون لنا الخبز كفاف يومنا«، و»الوجودية« بمعنى تثبيت الانتماء وإعادة الاعتبار الى هذا الانتماء لعروبة باتت مهانة ومصدرا للتشهير!
المواجهة إذن متعددة الجبهات: تهرب منها في »الخارج« فتدهمك في الداخل، وداخل الداخل… في الشعب، وأمره هين، ولكن ربما أيضا في القوات المسلحة وهذا أمر يستدعي التفكير!
* * *
لم يأت الحكام الى القمة من تظاهرات الجائعين الى الكرامة قبل الخبز.
ولم يصلوا للتو من ثياب الميدان وغبار المعركة على ثيابهم، بعد.
لقد جاؤوا من حيث هم: أكثريتهم الساحقة الماحقة اختارتها »الاقدار« ولم ينتخبها الناس. وهي باقية بقوتها الذاتية لا بارادتهم. وهي تداري غضبة الناس ولكنها لا تتركها تجرفها فتأخذها الى التهلكة.
جاؤوا وفي صدورهم شيء من الخوف من ناسهم.. هذا صحيح!
لكنهم يخافون من اسرائيل اكثر،
ويخافون من أميركا بأكثر مما يقدّر المقدّرون.
والبيان الختامي مكتوب بصياغة صائغ ماهر يوازن فيه بين هذه المخاوف جميعاً، فيرضي بغير ان يغضب او يستفز.. الاقوياء!
على انهم قد جاؤوا فاجتمعوا، تحت اسم فلسطين المتوهجة بدمها.
وجاؤوا من غربة، ومن بعد شاسع، فهم منذ عشر سنوات على الاقل لم يتلاقوا جدياً حول قضية، ولم يرتضوا شراكة في ما بينهم الا اذا كان الاميركي ثالثهم، واحياناً الاسرائيلي رابعهم.
تخطوا كثيراً من حواجز الخوف والشك والاسترابة بعضهم بالبعض الآخر، وجاؤوا فتلاقوا، ولم يكن ممكناً ان يتم اللقاء الا باسم فلسطين، كما لم يكن ممكناً ان يتم التلاقي الا على الحد الادنى.
ثم ان عذرهم معهم: فالفلسطيني لم يطلب اكثر.
بل ان الصراحة تقتضي الاعتراف بان بعض الانظمة كانت في منطقها، ومن ثم في موقفها، اكثر تقدماً واكثر شجاعة واكثر وضوحاً من منطق القيادة الفلسطينية،
فالقيادة الفلسطينية قادمة من شرم الشيخ، التي لولاها لم تُعقد، ومثقلة بارتباطاتها التي قاتلت للحصول عليها من الادارة الاميركية، وهي تريد الاسناد ليقبل الاسرائيلي بأن يفاوضها.
أي انها ليست ذاهبة الى الحرب. انها تقاتل من أجل التفاوض على اتفاق آخر يكمل اتفاق أوسلو، ولم تدعّ انها بصدد التحرير.
***
المهم ان قمة عربية قد انعقدت، اخيرا، وباسم فلسطين.
والمهم ان العرب قد تلاقوا على الأرض، أي في الشارع أخيرا، وتحت راية موحدة هي فلسطين.
والمهم ان هذه القمة، وبرغم كل وجوه النقص فيها، قد لوّحت بموقف مشترك من اسرائيل بعدما كانت اسرائيل قد باتت طرفا بل »محورا عربيا«، يتخذ منها بعض العرب حليفا ضد اخوانهم..
والمهم ان الولايات المتحدة الأميركية لم تكن تريد هذه القمة، ولم تطلبها، وان كانت قد مارست عليها أقسى الضغوط حتى لا تخرج بمقررات »أكثر تطرفاً«… خصوصا وانها مشغولة بعد بدفن قتلاها من بحارة المدمرة التي تسير، بالطاقة النووية والتي فجّرها »مجهولون« في ميناء عدن باليمن، عشية قيام »مجهولين« آخرين بقصف السفارة البريطانية في صنعاء التي احتشد فيها مليون يمني قبل يومين تحت راية فلسطين وباسمها.
***
انها قمة »الحد الأدنى«، بل ربما الأدنى من الأدنى قياساً الى ما يطلبه الناس، وما توقّعه الجمهور منها،
ولكنها قمة »الحد الأقصى« مما يقدر عليه هؤلاء الخائفون الذين تلاقوا في »مصر الجديدة« بينما فلسطين تملأ سماء القاهرة وأرضها وناسها، كما فضاء الوطن العربي على اتساعه.
ولبنان المقاوم كان في كل الامكنة والعواصم، في الجامعات وفي المدارس وفي الشوارع وفي البيوت، ضوءاً على الطريق نحو الهدف.

Exit mobile version