طلال سلمان

قمة بين »مصر جديدة« قاهرة

شاسعة هي المسافة النفسية بين »مصر الجديدة«، حيث مقر »الكلام الرسمي العربي« في هذه الساعات، وبين »القاهرة« التي تبدو بعيدة جدا عن قمتها الطارئة التي تبدأ أعمالها غداً، وسط شعور عام وطاغ بأنها قد فقدت »وظيفتها«، وبأنها باتت من لزوم ما لا يلزم، لا يعلق عليها أحد آماله ولا يتوقع منها أحد ما يمكن ان يفاجئه فضلاً عن ان يفرحه أو يحقق له الحد الأدنى مما هو في تقديره ممكن وضروري.
الدنيا هناك في »مصر الجديدة« غير الدنيا في »القاهرة«: اللغة مختلفة جذرياً، المعطيات والوقائع المتداولة مختلفة، والاستنتاجات بالتالي مختلفة.
في »القاهرة« تحتل فلسطين فضاء الاهتمامات جميعاً، في البيوت والمقاهي، في المنتديات والصحف، في الشارع وفي المطاعم، إضافة الى ثرثرة سواقي التاكسي.
أما في »مصر الجديدة« فتحضر اسرائيل مقابل الحضور الفلسطيني فيصير الكلام بحساب، ثم يحتل »الحساب« اللغة فترتبك وتتعثر ويضيع المعنى، ويهيمن الشبح الأميركي على الأمكنة والأزمنة والألسنة!
في القاهرة عادت فلسطين، بعد غياب طويل حجبها خلاله حديث التسوية والاتفاقات والعملية السلمية، فإذا هي تعود من الداخل لا من الخارج، من الوجدان حيث كانت قد احتجبت لتغوص أعمق فأعمق.
فوجئ الأهل بأن أطفالهم الذين لا يعرفون شيئاً ولا يهتمون بالسياسة، »فلسطينيون« حتى العظم، منحازون اليها حتى الاستعداد للموت من أجلها… ولم يكن ذلك الفتى ذو الثماني سنوات الذي ترك البيت ولم يصل الى مدرسته ثم تبين انه في الطريق الى رفح ليقاتل من أجل فلسطين ومع اقرانه فيها، الحادثة الوحيدة الدالة وان كانت الأعظم وقعاً والأوسع صدى وانتشاراً.
وفي القاهرة عادت صورة اسرائيل »الأصلية«: العدو الأول والأخطر والأكبر والأقوى والذي لا بد من مواجهته ولا مهرب من قتاله بكل الوسائل والأساليب وبكل الوعي والحرص وبكل الادراك لأسباب تفوقه ومن ثم لأسباب هزائمنا في مواجهته… ولكن لا تعجّل ولا استعجال، ثم ان الطائرات والدبابات والصواريخ ليست هي بالضرورة الأسلحة الضرورية للحرب المفتوحة معه، بل ثمة ما هو أفعل وأقدر على الحسم: انها الارادة. انه الرفض للهيمنة، انها المقاطعة، انه النبذ والحصار.
في البداية اتخذ هذا المنطق أشكالاً شبه سياسية، ثم »نزل« الى الأرض، فإذا الدعوات تتهاطل الى مقاطعة متاجر وشركات ومؤسسات مصرية تتعامل مع الاسرائيليين… وكانت المفاجأة حين بادرت شركات منافسة الى نشر اعلانات تتضمن أسماء مساهميها، ولا سيما الأجانب مع إفادات تؤكد ان ليس بينهم إسرائيلي واحد، أو شركة إسرائيلية أو رأسمال إسرائيلي ولو مموها.
الآن تولت الأمر الغرف التجارية، واتخذت الحركة سياقاً عملياً منظماً ومؤثراً، يشبه نوعاً من المطاردة للتسلل الإسرائيلي الى قلب الإنتاج أو الحركة التجارية أو المحاصيل الزراعية أو المؤسسات الصناعية في مصر.
ولأن الحدود ضائعة بين ما هو إسرائيلي وما هو أميركي فقد امتدت المقاطعة الى العديد من المؤسسات وشبكات المطاعم والسوبر ماركت الأميركية.
سقط ما كان قد استقر في اليقين، بالضخ الاعلامي اليومي والمنطق السياسي المتهالك، من ان اسرائيل قوة لا تقهر، وان لا قدرة على الحرب التي ستعني تدمير مصر بغير ان ينفعها العرب الأضعف منها وإن زايدوا عليها لتوريطها.
هذا لا يعني أبدا أن المصريين ذاهبون إلى محاربة إسرائيل بالسلاح غدا، لكنه يعني ان مصر تقاتل لإخراج إسرائيل التي كانت قد توغلت فيها، من داخلها، وانها تلجأ إلى العقل والى الحساب وإلى سلاح المصالح، والأهم انها تستعيد وعيها بذاتها وبطبيعة الصراع المفتوح والذي سيبقى مفتوحا مع الإسرائيليين لأسباب تنبع من احتلال فلسطين ولكنها تتعداها وتتجاوزها لتتصل بالعرب جميعا وبالمصريين على وجه التحديد.
سقطت الأقنعة والتمويهات جميعا، واستقرت الصورة الأخيرة لإسرائيل في الوجدان المصري: العدو، قاتل الأطفال، مدمر البيوت، العامل للهيمنة المطلقة على كل البلاد، المانع للتطور والتقدم، مخرب الاقتصاد والزراعة، الحريص على إبقائنا متخلفين ولو بقتالنا لتكون له السيادة على الأرض وبشرها.
وسقطت أيضا خرافة السلام وإمكان التعايش مع هذا الكيان الذي لا يمكن أن يتخلى عن نزعته التوسعية. ليست إسرائيل راغبة أو جاهزة للسلام فلماذا نستميت ونرهن إرادتنا ومواردنا وكرامتنا في طلبه بل وفي استجدائه؟! لا قدرة لنا على قتالها، حسنا، فلنقفل أبوابنا في وجهها ولنحصن أنفسنا ضد اجتياحها أرضنا بالسياسة والدولارات والخبرات إن لم يكن بالسلاح، أو بالأحرى في حماية التفوق بالسلاح!
في »مصر الجديدة« يختلف التقدير فيختلف الموقف وتختلف اللغة.
إسرائيل، ومن خلفها ومعها وفيها الولايات المتحدة الأميركية هي مصدر الخوف. وشبح الحرب مقلق بحيث يشل التفكير: لن نحارب مرة أخرى. لقد أدينا واجبنا فحاربنا مرات ومرات، وغالبا ما كنا نترك وحدنا في الساحة. وها هم كلهم قد تقدموا وبنوا بلادهم ثم أخذوا يعيروننا بتخلفنا! ليذهب إلى الحرب المزايدون، أما نحن فهمنا حماية الفلسطينيين وبين أسباب الحماية استمرار العلاقة الرسمية مع الإسرائيليين.
فلسطين عذر أو ذريعة جاهزة للاستخدام في الاتجاهين.
فعرفات متعدد المواقف والتواقيع، والخطاب الحربي النبرة يتوسل التسوية والاتفاق الجديد المثبِّت للاتفاق القديم المتهالك، وأجداث الشهداء تفيد في استنفار المساعي من أجل التوسط لدى الأميركان ليضغطوا على إسرائيل كي توافق على… وقف إطلاق النار!
وعرفات معذور، وعاذر، ثم انه العذر والذريعة لمن يريد أن يخلي الميدان. ما زال الشعار الرسمي هو ذاته: لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، ولن نحرجهم، ولن نطالبهم أو نطلب منهم إلا ما يريدونه لأنفسهم.
»عرفات لا يريدنا أن نقطع مع إسرائيل. عرفات يريد دعما سياسيا وليس سلاحا. عرفات يريد السلام لا الحرب. عرفات لا يريد أكثر من فك الحصار ولجنة تحقيق دولية. ويريد مساعدات لإطعام الفلسطينيين والتعويض على أسر الشهداء والمصابين. فليتقدم القادرون، إذا هم رغبوا وليدفعوا«.
المسافة شاسعة بين »القمة« في »مصر الجديدة« وبين الناس في »القاهرة« وسائر العواصم. وفلسطين التي في القمة غير فلسطين الناس.
هنا في القاهرة سبق الناس قرارات القمة، إن كان ثمة قرارات، فباشروا التحرك العملي في الاتجاه الصحيح: بخطى وئيدة ولكنها عملية ومؤثرة. لا يهم أن يسحب السفير أو يبقى. المهم أن تخرج إسرائيل من مصر. المهم ألا تدخل بضائعها وألا يدخل خبراؤها وألا يدخل »مستثمروها« ولو بجنسيات أخرى. والأهم ان تعود صورتها فتستقر في وجدان الأطفال الآتين إلى المستقبل على أنها »العدو«.
وهي الآن »العدو«.
ومصر الآن في بداية الوعي بالذات واستعادة الروح، مرة أخرى.
ولبنان المقاوم شديد أو كثيف الحضور في مصر الجديدة كما في القاهرة.

Exit mobile version