طلال سلمان

قمة بيروت في مبادرة سعودية

عطلة الأضحى طويلة، لكنها لم تكن كافية لأن تتبدل الأوضاع فيكون »العيد«!
قصد المسلمون، وقد تخففوا من شعورهم بأنهم »مطلوبون«، بعامتهم، »للعدالة الأميركية« بوصفهم »الوكلاء الحصريين« للإرهاب، إلى ثانية القبلتين في مكة المكرمة، لأن أولى القبلتين (وثالث الحرمين) في القدس ما زالت مع أهلها أهلهم في الأسر، ولم يسمح لها شارون كما سمح لعرفات بالتجول بين غرف معتقله في رام الله… ولقد أدى المليونا حاج المناسك والشعائر بانضباط كامل متجنبين الإنزلاق إلى رجس السياسة، فصلّوا طويلاً ورجموا الشيطان بالحصى (والأحذية والقباقيب!)، وابتهلوا إلى الله كثيرا، وعهدوا إليه بمطالبهم وأمانيهم التي عجزوا ويعجزون عن تحقيقها، ثم اتخذوا طريق العودة مطمئنين إلى أن الله لن يخيب لهم أملاً، فهو غفور رحيم وعلى كل شيء قدير وإذا أراد أمراً قال كن فيكون.. وإن كانوا عنه غافلين!
أما العرب فما زالوا في غياهب الإجازة التي يمطونها فتتجاوز، في الغالب الأعم، الأسبوع لتغدو عشرة أيام طوالاً، واثقين من أن ما كتب في واشنطن، قد كتب، ولن يتبدل فيه حرف سواء أحضروا أم غابوا، وهم في إدارتها الجبارة واثقون وعليها معتمدون، ولأمرها صادعون…
فأما اللبنانيون، منهم، فيتميزون بالحيوية والقدرة على الابتكار واختلاف أسباب العراك، ولو من باب الترفيه عن الذات… وهكذا فإن »الحروب« متواصلة بين الموالين في المعارضة والمعارضين في الموالاة، وزراء وأجهزة وإدارات داخل الحكم الواحد، فضلاً عن اللجوء إلى الأسلحة الثقيلة في المعركة المفاجئة التي أُسقطت عليهم من علٍ بين الوكلاء الحصريين في السياسة والوكلاء الحصريين في التجارة، والتي يتم توظيفها كالعادة طائفيا لتعطيل القرار أو تشويه التنفيذ، فتتم المصالحة بين الأطراف المتحاربة جميعا ويدفع المواطن كلفة الحرب »والدية« الضرورية، ارتفاعا في كلفة عيشه وتناقصا في دخله الذي ينقص عن احتياجاته، أصلاً.
* * *
على أن العطلة الطويلة لم تذهب عبثاً، فلقد أخذ العرب وقتهم في قراءة مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بعيداً عن التهكم الجارح الذي قدمها به الصحافي الأميركي الذي تخصص في توجيه رسائل الإهانات إلى القادة العرب، قبل 11 أيلول وبعده، والتي تصيب »رعاياهم« بأكثر مما تصيب أشخاصهم.
وفي حين رأى بعض العرب في مبادرة الأمير عبد الله محاولة لتنظيم »هجوم سلمي« مضاد لتبرئة النمط السعودي من »الإسلام السياسي« من تهمة احتراف الإرهاب الدولي لتدمير النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة، فقد رأى بعضهم الأرجح عقلاً في هذه المبادرة محاولة جادة لاختراق الحصار الإسرائيلي الذي ضربه شارون على العرب جميعا، وعلى علاقتهم بالإدارة الأميركية بعد تفجيرات 11 أيلول، ليتسنى له الانفراد بالفلسطينيين ومحاولة سحق انتفاضتهم وإعادة احتلال إرادتهم بالقتل والتدمير المنهجي واعتقال »السلطة« وتحويلها إلى مجرد »وكيل أمني« مهمته مطاردة مقاومي الاحتلال وحبس المناضلين داخل السجن الذي تحتجزها فيه حكومة الاحتلال الإسرائيلي.
فالمبادرة وإن كان التوقيت قد جعلها تتزامن مع موعد القمة العربية المقررة في بيروت، بعد شهر، تتجاوز هذه المصادفة لتحاول كسر الجمود والخروج من الشلل الذي أصاب »العملية السلمية« التي كانت ترعاها الولايات المتحدة الأميركية، باقتراح العودة إلى مؤتمر مدريد، وإن بصيغة مطورة، توفر مدخلاً إلى حل يشارك فيه جميع الأطراف المعنيين بالصراع العربي الإسرائيلي، القريب منهم بالجغرافيا إلى البؤرة المشتعلة في قلب فلسطين، أو ذاك الذي لا تمنعه »المسافة« من الانخراط في الصراع الذي سيؤثر في صياغة حياته غداً، كما أثّر فيها بالأمس ويؤثر فيها اليوم.
والمبادرة، في صياغتها الأولية وغير المكتملة كما نشرت، تتجاوز مناسبة القمة المحاصرة كما السلطة الفلسطينية بالارهاب الاسرائيلي المعزز بالمساندة الأميركية، لتقدم إطارا يعوض ترنح الاتفاقات المنفردة، التي سبقت اتفاق أوسلو، الذي صرعته الرصاصات الأولى التي أطلقها الاسرائيليون على انتفاضة الحجارة، ثم تباهى ارييل شارون بأنه قد دفنه فتحرر منه، فحرر بذلك الفلسطينيين من اتفاق إذعان أشوه قبلته قيادتهم تحت تأثير التوهم بأن »الاستقلال« عن العرب يفتح الطريق الى »شراكة« مع المحتل الاسرائيلي.
في أي حال فالمبادرة السعودية تتطلب شجاعة استثنائية، ذلك أنها المرة الأولى التي تصل فيها مملكة الحرمين الشريفين الى حد كسر المألوف في سياستها الفلسطينية، فتتحدث عن التطبيع الكامل مع اسرائيل إذا هي نفذت القرارات الدولية وانسحبت الى حدود 4 حزيران 1967، على مختلف الجبهات العربية بما فيها سوريا بطبيعة الحال، التي يفترض ولي العهد السعودي أنه إنما يحمل مطلبها »بالحل الشامل والعادل« عبر العودة الى صيغة مدريد مطورة بفعل نهر الدماء الذي تسبب فيه التعنت الاسرائيلي والنزعة العنصرية الاستعمارية التي تعتمد سياسة »تطهير« الأرض من أهلها الأصليين لاستيطانها وكأنها فعلا أرض بلا شعب!
وفي انتظار أن تعلن المبادرة بصيغتها الأصلية الكاملة فإن ما يذهب إليه التقدير أن ولي العهد السعودي إنما يحاول أن يساعد الإدارة الأميركية على الخروج من دائرة الشلل التي حاصرها فيها شارون، بعدما تهاوت ادعاءات هذا السفاح الاسرائيلي أمام صلابة المقاومة الفلسطينية الباسلة، وبدأ ينفض من حوله »الجمهور« الذي حشدته لوثة الدم خلف الدبابات والجرافات والحوامات والمدافع وهي تغتال المناضلين وتقتل الأطفال والنساء والبيوت والأشجار والطيور واحتمالات التعايش في المستقبل.
على هذا فلقد بات ارتباط قمة بيروت بالمبادرة السعودية عضويا، لأنها أعطتها »المهمة« والعنوان الجديد للمرحلة المقبلة في العمل العربي المشترك، بقدر ما وفرت للادارة الأميركية مخرجا قد تحتاجه إذا ما تخلت عن انحيازها الفاضح للعدوان الاسرائيلي المفتوح الذي يسهم في تعزيز المناخ المعادي لمصالحها في العالمين العربي والاسلامي، خصوصا بعد تورط إدارتها في استعداء العرب والمسلمين عموما بعبارات التحقير التي صدرت عنها كما بالاتهامات العشوائية التي طالت »أصدقاءها« بينهم بأكثر مما نالت من خصومها الطبيعيين، أو من تبقى منهم.
ومشروع المبادرة السعودية، التي علقها الأمير عبد الله في انتظار أن يغير شارون من طبيعته الشرسة ومن ولعه بالدم، يظل قابلا للأخذ والرد، سيما وانه لم يقدم رسميا الى الإدارة الأميركية ولم يعرف بالتالي ردها النهائي عليه، على عكس تلك الدعوة التي أطلقها وزير خارجية الفضائية التي أنبتت »دولة عظمى« والتي طلب فيها »توسل« الإدارة الأميركية لكي تتدخل… جازما بأن العرب لا يملكون غير هذه الوسيلة للفت نظر واشنطن من أجل توقيف »حمام الدم« الذي ترتكبه اسرائيل في فلسطين المحتلة، فكان أن قتل الشهداء مرة أخرى.
في أي حال فقد ينجح الأمير عبد الله في التخفيف من الحصار المسبق لقمة بيروت بين حربين إحداهما دموية تمارسها اسرائيل داخل فلسطين، والثانية »إرهابية« تمارسها الإدارة الأميركية على امتداد الكون، مع موقع ممتاز فيها للعرب (والمسلمين)، ومكانة رفيعة لبيروت داخل هذا الموقع الممتاز.

Exit mobile version