طلال سلمان

قمة بيروت ابتزاز مزدوج

لم تُعقد قمة عربية، أقله في العقدين الأخيرين، إلا بقرار أميركي!
فمنذ أن ضربت الفرقة، التي بلغت في حالات مشهودة حد الحرب، الصف العربي وقضت على مبدأ التضامن، ولو على قاعدة الحد الأدنى، انتزعت واشنطن لنفسها حق »الفيتو« في موضوع القمة: لا تُعقد إن هي »منعتها«، ولا تخرج بمقررات لا توافق عليها، إذا هي سمحت بانعقادها.
لا يعني هذا التقدير أن الدول العربية قاطبة باتت رهينة القرار الأميركي، لكن الواقع يكشف أن التأثير الأميركي بات قوياً بحيث يستطيع تعطيل قمة أو أقله منعها من تحقيق الغاية المرجوة منها أي اجتماع العرب على أهدافهم المشتركة حتى لا نقول على قضيتهم الواحدة.
ثمة مشاريع قمم منع الضغط الأميركي انعقادها،
وثمة أكثر من قمة انعقدت وجدول أعمالها المعد في واشنطن جاهز سلفاً، ومشروع بيانها الختامي معلن، بل ومنشور في صحف مختارة.
على هذا فليس مفاجئاً أن تسعى الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الآن إسرائيل وبشكل شبه علني، لابتزاز القمة العربية المقررة في بيروت أواخر آذار المقبل.
إن المواقف الأميركية والإسرائيلية معلنة، والتطابق بينها مكشوف نتيجة لانكشاف التهالك في مواقف العديد من الدول العربية، التي تجاوزت بالقمع خوفها من »الشارع« فصارت أكثر خضوعاً وأشد ارتهاناً للإرادة الأميركية.
الجديد فقط أن بعض الأنظمة العربية باتت تجهر باستعدادها لتلبية كل الطلبات الإسرائيلية، بزعم أن ذلك يعزز موقعها في واشنطن، ويوفر لها بالتالي كل أسباب الحماية المطلوبة.
والمشهد عشية القمة العتيدة في بيروت واضح تماماً بحيث لا يحتاج إلى خبراء في الترجمة:
تندفع إسرائيل في هجومها الدموي التدميري على فلسطين، بينما معظم الأنظمة العربية تحاصر نفسها (!!) بتهمة رعاية »الإرهاب« أو دعمه أو تمويله، تاركة لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش أن تدينها فتحاسبها تارة على أخذها بالشريعة الإسلامية، وطوراً على عدم توجيه العناية الكافية إلى خريجي مدارسها الإسلامية التي أمدّت المخابرات المركزية »بالمجاهدين« من »الأفغان العرب« الذين كانت بأمسّ الحاجة إليهم لقتل السوفيات الملحدين والكفرة في أفغانستان.
ويصل الخوف من تهمة »الإرهاب« بالسلطة الفلسطينية إلى حد التبرؤ من تاريخ الشهداء والمناضلين الذين بفضل دمائهم وصمودهم سمح بقيامها فوق بعض بعض أرضها مع موانع جدية وعملية لإمكان تحولها إلى »مشروع دولة«.
لكن ذلك لا يكفي شارون ولا يرضي الإدارة الأميركية، سيما وأن معظم العرب يديرون وجوههم إلى الناحية الأخرى حتى لا يشهدوا بأمّ العين الانهيار الفلسطيني، الذي يُراد أن تكون القمة العربية غطاءً له، وإلا فقدت مبرّرها، في تقديرهم.
أي أن الابتزاز المزدوج، هنا، يستهدف انتزاع المزيد من التنازلات (المهينة) من السلطة الفلسطينية، ثم تأتي القمة العربية لتضع ختم »الشرعية« على هذه التنازلات فتحولها إلى »انتصار« عنوانه مثلاً التسريع بإعلان (!!) الدولة الفلسطينية المسخ فعلاً بقطع متناثرة من الأرض معزول بعضها عن بعض وشعب مجوَّع وعاطل عن العمل (إلا عند مضطهده الإسرائيلي) والمحصور داخل سور من الدبابات الإسرائيلية.
بصيغة أخرى: يشتد الضغط على عرفات لكي يتنازل أكثر، وعلى العرب لكي لا يعترضوا، فيوقع عرفات على ما لم يكن يقبله أو يستطيع قبوله من قبل، وبعد ذلك »يُفرج« عنه فينتصر على الحصار ويكسره خارجاً إلى بيروت فتستقبله القمة بالتهليل والتكبير… وفي ظل أفراح الاحتفال تُقلب الهزيمة الجديدة إلى »نصر«، ويتم تأمين التغطية »الذهبية« للتوقيع الذي يحسم من فلسطين ويضيف إلى إسرائيل، ودائماً تحت الغطاء الأميركي وبالمباركة العربية.
والابتزاز المزدوج معلنة عناوينه واستهدافاته:
إن التهديدات الأميركية ضد العراق وصلت إلى حد تحديد المواعيد للهجوم المزعوم، بما يضطر دول الخليج قاطبة إلى إعادة النظر في حساباتها والارتباك في قرارها من حضور قمة يشارك فيها هذا المستهدَف بالضربة التالية..
والتهديدات الأميركية لإيران، مع التركيز على »حزب الله« في لبنان، تحاول إضعاف موقف سوريا وإلزامها بموقف الدفاع ومحاولة التبرؤ من تحالفاتها الاستراتيجية.
أما لبنان، البلد المضيف، فمطاردته مستمرة بالاتهامات المتكررة ل»حزب الله« عن كل ما وقع حيثما كان وتمّ قيده ضد مجهول.. فإن لم يكن الإبن فالأب أو الجد… وهناك أيضاً حكاية الخط الأزرق و»تبعية« مزارع شبعا، وطلقات المضادات التي يحاول بها »حزب الله« صد الطائرات الإسرائيلية، ودويها فوق المستوطنات الذي قد يزعج قيلولة واحة الديموقراطية المعادية للتمييز العنصري في الأرض العربية.
الوجه الآخر للابتزاز محاولة تحييد بعض الدول العربية، أو تخفيف حماستها للعمل المشترك، بالمساعدات الأميركية المباشرة أو بنجدة الدول المانحة،
إن واشنطن تحصل لإسرائيل على مطالبها من العرب عموماً والفلسطينيين بشكل خاص، فتملي شروطها على السلطة الفلسطينية المحاصرَة، وتمنّ عليها بأنها إنما حفظت وتحفظ حياة رئيسها، ثم تطالب لبنان بأن يقدم لها »ضماناته« لانعقاد القمة في ظل »المناخ الإرهابي« الذي قد يفرضه »حزب الله« خصوصاً وأن الدولة تتبنى موقفه وتلتزم به.
مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك كله، تبقى القمة العربية في بيروت ضرورة حيوية لوقف استفراد الدول العربية لاستنزافها بمجموعها ثم واحدة واحدة، حتى بلوغ الذروة في فلسطين.
إن التضامن العربي ولو على قاعدة الحد الأدنى يحمي بعض معنى الوجود العربي، ويستنقذ بعض المستقبل، أما الخضوع للابتزاز فيضيّع الحاضر والمستقبل.

Exit mobile version