طلال سلمان

»قمة النصيحة«..

نجحت حكومة التطرف الاسرائيلي في أن تشغل العالم بمناورتها اللبنانية، خصوصاً وقد شفعتها بحملة ترويج مدروسة جيداً، بتوقيتها وعناوينها و»براءتها«، فكادت تخطف منا موقع الضحية لتظهر اللبنانيين عصاة يرفضون تنفيذ القرارات الدولية التي جعلوها شعارات وطنية علقوها شرائط صفراء على صدورهم.
…ونجح الحكم اللبناني في إثبات انشغاله بذاته وبخلافات أطرافه وكلها تتصل بمصالحهم الذاتية، حتى بدا لبنان عبرهم وكأنه لا يريد استعادة أرضه المحتلة ويخاف من »العواقب الوخيمة« للتحرير أكثر مما يخاف من الاحتلال وهو يكلفنا يوميا الكثير من دمائنا وأرزاقنا ومن اطمئناننا إلى غدنا.
ومما زاد في خطورة المناورة الاسرائيلية بالقرار 425 انها سقطت، في توقيتها، على وضع لبناني مرتبك وهو يقترب من مشارف مرحلة انتقالية تجعل الحكم فيه »يصرِّف الاعمال« اكثر مما يقرر، وعلى وضع عربي هش تكفيه هبة ريح لكي يتصدع فتنكشف عوراته ويتبدى على حقيقته: كل مشغول بنفسه عن الآخرين، خائف على يومه اكثر من اهتمامه بغد بلاده، يكاد يختنق بأزماته الذاتية، هارب من المواجهة التي قد تعجل في نهايته، وهو في ضعفه أعجز من ان يبلغ هدف »السلام« أي سلام!
اما صورة الوضع اللبناني فلا تحتاج إلى كثير من الشرح لتبيان مدى بؤسها… تكفي متابعة الوقائع الرسمية للقمة الموسعة التي عقدت في دمشق تحت الالحاح يوم السبت الماضي، للاستنتاج بأن الحكم ليس في كامل عافيته لكي يتصدى ويحبط وحده مناورة مكشوفة ولكنها متقنة الاعداد والتوقيت، كالتي اطلقتها حكومة التطرف الاسرائيلي.
لقد ذهب اقطاب الحكم الى دمشق وهم شبه متخاصمين، يتبادلون التشهير علناً، ويوجه واحدهم الى الآخرين اتهامات خطيرة مضمرة وان جعل لها عناوين اقتصادية او اجتماعية او حتى سياسية عامة،
واغلب الظن ان ليس بين اسباب الخصام والمنابذة بالالقاب خلاف جدي حول القرار 425 وشروط تطبيقه، او حول طبيعة المناورة الاسرائيلية التي فضحها »ابطالها« من قادة اسرائيل بأكثر مما كشفها المستهدفون بها.
وكان على القيادة السورية ان تصرف ساعات ثمينة في توجيه »النصائح« الى »الاخوة الاعداء« من اهل الحكم في لبنان، وفي تذكيرهم بمسؤولياتهم الوطنية والقومية وفي اعادة ترتيب اهتماماتهم بحيث يقدمون الخطر الاسرائيلي على مصالحهم الشخصية واغراضهم المباشرة التي كادت تأخذهم بعيداً عن ابسط واجباتهم كسلطة مسؤولة عن »الشعب والأرض والمؤسسات«.
لقد نسي رجال الدولة دولتهم…
وبقدر ما كان في البيان الرسمي عن القمة خروج عن المألوف في الاشارة الى اللقاءات الجانبية التي عقدها الرئيس السوري حافظ الاسد مع كل من الرؤساء اللبنانيين الثلاثة، فإن جو التكتم الذي اعقب »قمة النصيحة« التي امتدت لثماني ساعات، أوحى بأن الخلافات الفعلية كانت حول ما هو »خاص« وليس حول ما هو »عام« او »وطني«.
»جاءوا تسبقهم شتائم كل منهم، بل اتهاماته، للآخر، وعادوا وهم يحولون الشتائم الى مداعبات تثير من الاشفاق اكثر مما تثير من الضحك«.
أخطر ما في الأمر ان خلافات الرؤساء وتبادل الاتهامات في ما بينهم قد فتحا ثغرة في جدار الصمود اللبناني، فأخذ بعض اللبنانيين بمنطق حملة الترويج للمناورة الإسرائيلية، وقفزت من الظلام قوى »اتفاق 17 أيار« لتحاول استعادة اعتبارها، وكاد يصبح مقبولاً الحديث عن المطلب الإسرائيلي بالضمانات و»الترتيبات الأمنية« كتصفية »حزب الله« ودمج ميليشيا لحد بالجيش اللبناني واستقدام القوات الدولية والزام القوات العربية السورية بتأمين حدود الاحتلال الإسرائيلي!
حكم تصريف أعمال لا يستطيع أن يواجه حملة بهذه الشراسة،
وحكم تختلف رؤوسه وتكاد تلتهم بعضها بعضاً سيعجز بالتأكيد ومهما حسنت النوايا عن تسفيه الادعاءات الإسرائيلية وتأكيد أهليته للالتزام بموجبات من طبيعة دولية.
لا بد ان تتوقف الحرب داخل حرم الحكم ليمكن مواجهة الحرب الإسرائيلية الجديدة التي تكاد تكون أخطر على لبنان من غارات الطيران والقصف الجوي بل ومن الاجتياح العسكري ذاته،
ففي تموز 1993 ثم في نيسان 1996 واجه لبنان وانتصر، بقوة صموده وشجاعة أهله وصلابة مقاومته، والدعم السوري المفتوح.
ليس المطلوب من الحكم ان يرد بهجوم عسكري صاعق على إسرائيل، ولكن ان يدعم وان يحمي او بالأحرى الا يضيِّع او يفرط بصمود شعبه.
ان الموقف العربي، الشعبي وليس الرسمي فقط، يقدر عاليا صمود اللبنانيين، وهو يتخذ من المقاومة الباسلة في جنوب لبنان مثلاً أعلى، و»حزب الله« يحتل مكانة متميزة في وجدان الشباب العربي في المشرق والمغرب وأقطار الجزيرة والخليج.
لكن هناك مسافة هائلة بين صورة لبنان المقاوم وصورة لبنان الحكم ومباذله وانشقاقاته وخلافاته التي تنعكس في الشارع فتناً طائفية وحساسيات مذهبية مدمرة، بكل النتائج المفزعة لذلك كله على الموقف الوطني العام… وعلى الموقف من المناورة الإسرائيلية بشكل خاص.
كذلك فإن دمشق تدفع من رصيدها في كل مرة يذهب اليها الحكم في لبنان منقسماً فتعيد تجميعه حول مهماته الوطنية البديهية،
وحرام ان يستهلك رصيد دمشق في مثل هذا الغرض، خصوصا واننا والعرب جميعاً نحتاجه في ميدان المواجهة الاصلي.
… واستهلاك رصيد دمشق هو أيضا بين اهداف المناورة الإسرائيلية الجديدة، بل لعله في رأس هذه الاهداف التي يسوِّقها جنرال صيرناه دبلوماسياً، لم يستطع هزيمتنا بالحرب فاندفع يحاول بالسياسة معتمداً على انشغالنا بأنفسنا وأوهامنا… السلمية!

Exit mobile version