طلال سلمان

قمة اقل من اعجوبة واكثر من تحية وداع

بعد خمس سنوات طويلة، يلتقي من جديد الرجلان اللذان شكلا بعض ملامح هذه الحقبة، في المكان عينه: »الساعة سويسرية والتوقيت عربي والزمان أميركي«، والغائب الإسرائيلي »حاضر« بكثافة، بل لعله يشغل من المساحة أكثر مما كان ليستحق لولا الالتباس الدائم والمتعاظم بينه وبين »الراعي« الذي عليه أن يثبت في كل كلمة أو اقتراح أو تصرف، حيدته… المستحيلة.
السنوات الخمس بذاتها ليست شهادة نجاح للرئيس الأميركي بيل كلينتون. ذلك أن الموقف السوري الذي تبدت »مرونته« تحت شعار »السلام خيارنا الاستراتيجي« لم يتبدل ولم يتغير، في حين أن الموقف الإسرائيلي ظل على تذبذبه بين الموافقة اللفظية والرفض العملي.
بعد خمس سنوات ها هو الرئيس الأميركي يحاول إعادة »حليفه الاستراتيجي« إيهود باراك إلى »النقطة المتقدمة« التي كان قد تحرك إليها سلفه الراحل إسحق رابين، والتي سرعان ما تراجع عنها (بالخوف؟) شيمون بيريز، ثم أسقطها (بغرور التطرف) خلَفه بنيامين نتنياهو، والتي يحاول خلَف »السلف الصالح« الآن أن يعترف بها نصف اعتراف، فيتسبب أو يكاد في خسارة خيار التسوية، فاتحاً أبواب المنطقة مرة أخرى على »المجهول« وإن كانت دمويته أكيدة.
التاريخ لا يعيد نفسه مرتين، وبيل كلينتون الواصل الى الرئاسة بزخم استثنائي في العام 1994 ضد »بطل« إسقاط الاتحاد السوفياتي و»عاصفة الصحراء«، التي دمرت العراق (ومعه المستقبل العربي) وأعادت معظم العالم الى »الحظيرة الأميركية«، جورج بوش، هو غير بيل كلينتون الذي يمضي الآن الشهور (بل الأسابيع الأخيرة) من رئاسته وقد فقد وهجه وإن لم يفقد حلمه بأن يسجَّل له أنه الرجل الذي أنجز ما بدأه غيره ولم ينجزه: وضع الخاتمة (الاضطرارية؟) للصراع العربي الإسرائيلي الذي سبق القرن الماضي وشغل عقوده جميعا ولم ينته مع نهايته، برغم كل المعاهدات والاتفاقات المنفردة وشبق المهرولين إلى »خاتمة سعيدة« تكاد تكون مستحيلة!
مع ذلك، فلا بد من احترام هذا الإصرار عند الرئيس الأميركي على محاولة اختراق ما كان يبدو إلى قبل سنوات، مستحيلاً.
لم يعد مبرراً التساؤل عن الهدف من القمة الجديدة التي يتحرك في اتجاهها الرئيسان، في هذه اللحظات، برغم أنه من الضروري التذكير بأن الرئيس الأميركي قد هاتف الرئيس السوري عشرات المرات، خلال الشهور القليلة الماضية، وأنهما لا بد قد ناقشا تفاصيل كثيرة بما يسّر أمر العودة إلى طاولة المفاوضات »من النقطة التي توقفت عندها« في العام 1996 لتعود فتنقطع بالتعنت الإسرائيلي قبل شهرين، ثم بما يسّر أمر هذا اللقاء الجديد لاستنقاذ المفاوضات المجمدة ودفعها نحو غايتها المقصودة.
السؤال عن الجديد الذي يحمله كلينتون مفترضاً أنه قد يستطيع أن يقنع به حافظ الأسد.
على هذا »فالجديد« المفترض، إسرائيلي بطبيعة الحال. لكن المعلن من المواقف الإسرائيلية الرسمية لا يمكن اعتباره أكثر من نصف جواب، فإذا أضيفت إليه نتائج استطلاعات الرأي الإسرائيلية بات أقرب الى إقفال الباب… هذا قبل التعرض الى المناورة المفتوحة لإيهود باراك تحت عنوان الانسحاب من لبنان، وهي مفتوحة فعلاً على احتمالات عديدة ليست »التسوية« أولها وقد لا تكون آخرها.
من باب تنشيط الذاكرة، ليس إلا، قد يكون مفيدا استعادة عناوين»السفير« يومي 17 و18 كانون الثاني 1994:
في اليوم الأول خرجت »السفير« بالعناوين التالية:
] قمة جنيف التاريخية: اتفاق على »سلام الشجعان«[
]الأسد يؤكد وكلينتون يوافقه على أن الحل الدائم يجب أن يكون شاملاً وعادلاً[
]قضية لبنان في صلب المحادثات وتفاهم على اعتبار المسارين مسارا واحدا[
أما في اليوم الثاني فقد خرجت »السفير« بالعناوين التالية:
ما بعد جنيف: تقرير عن محاورات القمة.
ماذا قال الأسد لكلينتون عن مفهوم السلام، الحلول المنفردة ولبنان؟
»لم يكن الفيتناميون في نظرك إرهابيين فلماذا اتهام العربي المقاتل ضد الاحتلال بالإرهاب؟«.
أغلب الظن أن مجمل ما قاله الأسد ما زال صالحاً لأن يعلنه اليوم.
وأغلب الظن ان ما أعلنه كلينتون يومها من أن »سوريا هي المفتاح« قد أثبت صحته ووجاهته على امتداد السنوات الخمس الطويلة الفاصلة بين لقاءي 1994 في جنيف ثم في دمشق ولقاء الغد (الثالث) في جنيف.
المتغيّر خلال هذه السنوات الخمس كان الموقف الإسرائيلي، إذ تراجع من عند بوابة الحل الى حافة الحرب، ثم ها هو يتراقص فوق الحبل الرفيع الفاصل بينهما، في مناورة مفتوحة قد تنتهي بسقوط البهلوان والتهاب الحلبة.. انطلاقا من لبنان.
الخلاصة: ان المقدمات الإسرائيلية ليست مؤاتية لا للرغبة الأميركية ولا للمطالب السورية التي باتت من الثوابت في ذهن العالم أجمع، لبساطتها ومنطقيتها.
وعند ساعة الحقيقة لا ينفع باراك أن يقول عنه عارفوه إن »إحدى مشاكله أن أعصابه أقوى بكثير من ائتلافه«… ففي هذا المجال تحديدا لن تكون أمام باراك فرصة للنجاح في مواجهة ساحتها الأعصاب مع الرئيس السوري حافظ الأسد.
الامتحان الحقيقي للرئيس الأميركي بيل كلينتون، وهو امتحان مزدوج: أن يثبت صدقه مع »ضيفه« السوري الذي صدقه القول دائما فلم ينل منه ما يفترض انه تعهد به، ثم مع »حليفه« إيهود باراك الذي لولا دعم كلينتون لما كان على قمة السلطة في إسرائيل اليوم، والذي تبدت إشارات كثيرة تدل على انه طامع بصفقة مع خلَف كلينتون أكثر من استعداده لأن يرد له »الجميل« بينما هو يحزم حقائبه للرحيل عن البيت الأبيض.
لا عجائب غداً؟
مع ذلك، لا بد من نتيجة ما: أقل من أعجوبة وأكثر من تحية وداع بين رئيسين متباعدين قرّبت بينهما الرغبة في إنجاز تاريخي عطّله غرور القوة عند الإسرائيلي… ومصدرها في البداية وفي النهاية، أميركي!

Exit mobile version