طلال سلمان

قمة اصلاح امر

من محاسن الصدف هذا التزامن بين القمة العربية السادسة عشرة وبين الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان عبر »جولتها« الجنوبية، أمس، والتي صُوِّرت وكأنها ستكون »حرب داحس والغبراء« يتساقط فيها الضحايا بغير حساب، وتمت مثل نزهة في رحاب الديموقراطية لم يعكر صفوها أي إشكال بين المتنافسين الكثر بشعاراتهم البرّاقة التي امتدت بين نعيم »السلطة« على الأرض وتوظيف السماوات لتزكية مختار في دسكرة منسية على الحدود مع فلسطين المحتلة.
لقد أثبتت هذه التجربة اللبنانية المحدودة، كما سابقاتها في جبل لبنان وبيروت والبقاع، كم أن »المواطن« متعلق بالديموقراطية، معترف بحق الاختلاف مع الآخر، يندفع في التنافس إلى أقصى مداه، مستخدماً كل وسائل الإقناع، رافضاً استخدام العنف حتى لو ملك أدواته لقمع »خصومه«، الذين سيلقي »خصومتهم« خلفه مع الصباح..
بالمقابل فقد أكد السلاطين العرب في قمتهم التي تاهت طويلاً عن موعدها الإصلي وعن مهمتها المفترضة، ما كان ثابتاً قبلها من أنهم لا يعترفون بشعوبهم إلا نتيجة خوفهم من الإدارة الأميركية وبناء على طلبها، وأنهم لا يقرون بحقوق الإنسان، ومن ضمنها دور المرأة في الحياة العامة، إلا بالأمر الأميركي الصريح.
ونفترض أن »المواطن العربي« خارج لبنان لا يقل تعلقاً بالديموقراطية وتسليماً بحق الاختلاف عن أشقائه اللبنانيين بمن في ذلك أولئك الذين »بصموا« على كشوف الناخبين لأنهم لم ينالوا حظاً من التعليم.
* * *
ليس ممتعاً أن تتحول القمة التي غاب عنها الثلث من أعضائها، وأناب ثلث آخر من يمثلهم، الى موضوع تندّر وسخرية، بغض النظر عن رأي الناس في حكامهم… فهم، في نهاية المطاف، أصحاب القرار (ولو مصادراً) بشأن حاضر هذه الأرض العربية ومستقبلها (القريب على الأقل)..
ولكن ما العمل وسلاطين العرب الأقوياء على مواطنيهم يظهرون في غاية التهافت وانعدام الوزن وافتقاد الجرأة للقرار، حين يجتمعون بعد جهد جهيد، ويغدون بانقساماتهم التي لا تظهر في الصورة، والافتراق بين لغتهم وبين الفعل مادة للتشهير بشعوبهم وأمتهم، حين يخرجون بنتائج هزيلة تعبّر عن استهانتهم بهذه الشعوب التي انتزعوا، ادعاء، شرف تمثيلها.
لكأن معظمهم سلاطين عبيد: يحترمون شعوبهم بأمر الأجنبي الذي يحتل بعض أرضهم الآن وكل إرادتهم، ويقرون بحقوق الإنسان ويعترفون بالمرأة بالأمر، علناً، ثم يتابعون مسيرة القمع حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
بالمقابل فهم يشطبون من جدول أعمال قمتهم، وبالأمر، العراق، بشعبه وأرضه وكيانه السياسي، فلا يخصصون له إلا بضعة سطور، تاركين للاحتلال الأميركي أن يقرر مصيره، في غيابهم…
كذلك فهم يكثرون من الكلام الإنشائي عن فلسطين والقرارات الدولية الضامنة لحق شعبها في بعض بعض أرضها، متدحرجين إلى المبادرة العربية ومنها إلى خريطة الطريق التي ينكرها الآن »رسامها«، بينما يكاد يفرغ شارون من نهش الأرض في الضفة الغربية، ومن تدمير قطاع غزة على رؤوس أهله.
وفي الفترة الفاصلة بين الموعد »الأصلي« لهذه القمة البائسة والموعد الاستثنائي الذي فرضه جنرال تونس، خضوعاً لأمر من بيده الأمر، كانت »رفح« قد تحولت إلى مدينة أشباح، تتناثر أشلاء المئات من بيوتها تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية، وتمتلئ »برادات الخضار« بأجساد الشهداء من أبنائها، أطفالاً وفتية وشيوخاً..
أما في العراق فقد جاءت القمة بعد تدمير الفلوجة وبعض أحياء بغداد والعديد من أحياء كربلاء والنجف بعتباتها المقدسة، وأذيعت »المقررات« ببياناتها المتعددة غداة خراب الكوفة ونحر أهلها في مسجدها التاريخي، وعشية »خراب البصرة« وسائر المدن في أرض الرافدين.
* * *
الوثائق كثيرة، لكنها مكتوبة بقلم واحد، وإن اختلفت الصياغات قليلاً، تماماً قرئت بصوت واحد وإن اختلفت نبرات »الأمين العام« بين مقطع وآخر، لتمتلئ »نشوة« وهو يعلن بلسان هؤلاء الذين يرغبون في خلعه وإغلاق الجامعة العربية تقديرهم لجهده في استنقاذ هذه القمة التي عجزت عن إرضاء »من طلبها« لتمرير مشروعاته أو تصوراته لمستقبل المنطقة، كما استفزت المواطن العربي الذي لم يعد يتوقع من القمم غير المزيد من التنازلات التي ترميه في الدرك الأسفل من احترام العالم ومن اهتماماته!
الوثائق كثيرة، ثم إنها تحفل بمجموعة من التعابير التي لم يألفها السلاطين: التحديث، التطوير، الديموقراطية (والشورى)، الاصلاح، الانتماء إلى العصر، حقوق الإنسان، الانتخابات، المجتمع المدني الخ..
فإذا أخذنا بالاعتبار ان النسبة الكبرى من هؤلاء السلاطين المخلدين يحكمون شعوبهم أو يتحكمون بها منذ ربع قرن، وبعضهم منذ ثلث قرن، أو يزيد، لتبين حجم الخديعة في هذه »الوثائق« المكتوبة خصيصاً من أجل »الامتحان الخطي« الذي تجريه لهم الإدارة الأميركية لتقرر »صلاحيتهم« للاستعمال بعد هذا التاريخ، والذي ستتم جولته الأولى في جورجيا، بعد شهر، وقد دعي بعضهم إليه فعلاً، وحدد »الثمانية الكبار« كلجنة فاحصة والعياذ بالله!
كيف سينقد نفسه (وتاريخه) من يحكم بلاده ويتحكم بشعبها منذ 35 سنة، مثلاً، كمعمر القذافي، الذي جاء إلى القمة ليشرب سيكارة (لم يشربها من قبل!) وليؤكد »خروجه« من الجامعة العربية، راكباً طائرة الولايات الأفريقية إلى الولايات المتحدة الأميركية؟!
وكيف سيفي بالالتزامات (التاريخية) هؤلاء الحكام الذين لم يلتزموا مرة بمقررات قمة من قممهم: فلا هم وضعوا استراتيجية اقتصادية ولا هم جهدوا لتطوير بلادهم، ولا هم اعتمدوا الديموقراطية والشورى، ولا هم عززوا مقومات هويتنا العربية (بل هم قد حقّروها)، ولا هم خطوا خطوة واحدة على طريق الاصلاح، فضلاً عن تطوير نظم التعليم أو التنمية الاجتماعية.
ثم إن معظمهم لم يتعب من الموافقة على المقررات ذاتها لمدة عشرين سنة أو يزيد، بل لعلهم كانوا يتركونها فوق مقاعدهم الفخمة في القمم السابقة؟
ربما لهذا جهد من يتقن القراءة والكتابة من بينهم لكي تأتي الوثائق الجديدة أقرب ما يكون إلى السابقة، واعياً انه سينفذ ما سيطلب منه غداً مكتوباً باللغة الإنكليزية المحددة وليس بلغة المعلّقات التي تستخدم »المجاز« و»التشبيه« و»التمثل« وتومئ أكثر مما تقول وتعلن..
* * *
استبق وزراء الخارجية، أو بعضهم على الأقل، الهجوم على القمة ومقرراتها بما فيها »العهد والميثاق«، فبينهم من قال ان »النصوص الجيدة« قد ضاعت في الطريق، وبينهم من أشار إلى ان »الناس لم يعودوا يصدقوننا«… مع التأكيد على ان السلاطين قد أشهدوا على التزامهم الله وعباده الصالحين!
وربما حاول هؤلاء الوزراء تبرئة ذمتهم من المسؤولية عن تقصير القمة في انجاز الحد الأدنى مما كان الناس يتوقعون منها، خصوصاً أن السلاطين قد احالوا الأمر عليهم: امتنعوا هم عن توقيع الوثائق، طالبين من وزرائهم ان يوقعوها بالأحرف الأولى، تاركين »للبرلمانات« العريقة ان تقرها (!!) ثم ترفع إلى المستوى الأعلى ليقرر فيها ما يشاء… والله أعلم ب»ما يشاء«!
ليس أكثر من كلمة »التطوير« في هذه الوثائق إلا كلمة »الإصلاح«.
وليس أكثر من الإشارة إلى كل ما هو »مشترك« بين الدول العربية إلا الالحاح على ضرورة »التغيير«.
لكن »القمة« ظلت في »القاع«، وظل »مهرجان كان« للأفلام السينمائية، أرقى منها سياسياً بما لا يقاس: سواء في الموقف من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد شعب فلسطين، أو من ارتكابات الاحتلال الأميركي في العراق، وصولاً إلى تقديم السعفة الذهبية للمخرج مايكل مور الذي وصف الرئيس الأميركي جورج بوش بما لا يجرؤ السلاطين العرب على قراءته وليس فقط على قوله، في تصريحاته العلنية، بعد فيلمه الممتاز »فهرنهايت 9/11«.
* * *
لقد انعقدت القمة العربية، أخيراً، وفي تونس، ولكن بموعد غير موعدها المقرر، وفي غياب »رئيسها« السابق الذي أوفد »عمه« ليسلم الأمانة بالنيابة عنه، بينما لم يتكرم ملك الأردن في تسليم الأمانة في قمة بيروت قبل سنتين، فاستلمها الرئيس اللبناني بالبداهة..
ثم إن أغلبية من حضر من الملوك والرؤساء قد غادروا قبل ان تصدر مقرراتها الخطيرة، التي لم ينتبه إليها شارون فأكملت دباباته وجرافاته وحوّاماته تدمير رفح وبعض أجزاء غزة، بينما واصلت الطائرات الحربية اغتيال شباب فلسطين بالصواريخ..
… وبالطبع لم تتنبه إلى خطورتها قيادة قوات الاحتلال الأميركي في العراق، فواصلت وبأسلحتها المتطورة والهائلة القدرة على التهديم »تطهير« بعض المدن المشاغبة، حتى لا يتعرض أهلها لمثل ما تعرض له المعتقلون في سجن أبي غريب، من أسباب »التكريم« على أيدي المجندات والمجندين من رسل الديموقراطية الأميركية.
… ومن في »القمة« لا تصل إلى مسامعهم مثل هذه الأخبار المسيئة إلى »العهد والميثاق« وإلى أفكار التطوير والاصلاح والتنمية البشرية العتيدة.

Exit mobile version