طلال سلمان

قلق»زايد«…ندوة عربية

في البدء كان »القلق«.
ثم صار للقلق ندوة ومنتدون ونقاش مفتوح حول »مستقبل الوطن العربي ودور جامعة الدول العربية«.
من قلق »زايد بن سلطان آل نهيان« انطلقت الفكرة، وتحت رعايته وُلدت »المؤسسة« التي بدأت أعمالها ظهر أمس ولن تنتهي مع البيان الختامي بعد غد، بل أغلب الظن أنها ستنجب ما يحفظ للفكرة كرامتها، خصوصا أن »القلق« الى تصاعد وليس في أفق الغد القريب ما يطمئن أو يزيل أسبابه.
في البدء كانت شجاعة الجهر بالقلق، وكان الطلب بأن يحتل هذا القلق رأس جدول الأعمال لأي مسؤول عربي، بالفكر والبحث قبل القرار.
ولعله كان طبيعياً أن يتفرّد »زايد« فيسبق بالتعبير صراحة عن القلق القومي، لأنه الحاكم العربي الذي ما زال الأقرب إلى المواطن في عفويته وجرأته في التصريح عما يثقل صدره من هموم تتجاوز اليوم إلى الغد، وما يشغل باله من مخاطر مصيرية متعددة المصادر.
ولقد تلقف الفكرة حاكم سابق كوته التجربة المرّة ففتحت قلبه وعقله على بشاعة الواقع واحتمالات الانهيار المحتوم، وأكسبته من الحكمة ما جعله يندفع إلى إعادة البحث والدرس وفتح الباب المرصود للحوار الذي طالما كان ممنوعاً، في محاولة لتعويض الزمن المهدور والدم المهدور، ومن هنا جاء انتقاله »السلمي« من السلطة إلى »المركز العربي للدراسات الاستراتيجية«.
»الفكرة« إذاً، من زايد بن سلطان آل نهيان، و»التنفيذ« لعلي ناصر محمد والمركز، والرعاية لدولة الإمارات العربية المتحدة وضيف الشرف، مبدئياً، والمتهم الماثل في قفص الاتهام، عملياً، هو جامعة الدول العربية. أما النيابة العامة ووكلاء الدفاع، وربما القضاة، فهم مجموعة من الباحثين والدارسين والمدرّسين العرب ممن يجتهدون فيخطئون أحياناً ويكون لهم أجر واحد، ويصيبون أحياناً أخرى فيكون لهم أجران..
في »المجمع الثقافي« كان الافتتاح الاحتفالي، والكلمات القصيرة المكتوبة بعناية والمقروءة بعناية بحيث لا تمسّ أي محظور.
ثم إلى القاعة الممتازة التكييف في الفندق الفخم حيث انتظم الدارسون من حول طاولة مستطيلة تظلّلها في موقع الصدارة، وخلف الرئاسة مباشرة تلك الباقة المزركشة من الأعلام التي تفرض مناخ التعدّد، مهما ارتفعت الأصوات المتباينة اللهجات بتمنيات »الوحدة« أو »الموقف الموحّد« وصولاً إلى »الموقف المشترك« وعلى قاعدة الحد الأدنى، وهو ليس متاحاً أو مقبولاً دائماً، ومهما ارتفعت حرارة المجاملة بين العرب المختلفين.
* * *
خارج القاعة ومن حولها، كان »مؤتمر الدوحة« يلقي بظلاله المعتمة.
وهكذا تبدّت للمنتدين، بالعين المجرّدة، بعض الأشباح التي تستولد قلق الشيخ زايد بن سلطان.
داخل القاعة، وحين تحدث بعض المشاركين من أبناء الكويت، بالتحديد، جاست بين المنتدين أشباح أخرى حاملة رايات القلق الصفراء.
وبرغم الحماسة والكياسة والبلاغة التي يتمتع بها الدكتور عصمت عبد المجيد والتي يستخدمها جميعاً لإشاعة جو من التفاؤل والتطمين، فإن واقع المشكلات المطروحة على الجامعة العربية والتي تعجزها عن الحركة وتكاد تعطل قراراتها فإن أمكن استصدار قرار، بأعجوبة، شلّه العجز عن التنفيذ، فإن أشباح القلق المهيمنة على الوطن العربي كادت تنتصب أمام المنتدين فتذهب بكلامهم المجامل وتمنياتهم أو رغباتهم أو موجبات وظائفهم إلى حيث لا فعل ولا صدى.
لم تنتعش بعد »روح التسامح« التي بشّر بها الشيخ زايد في وقت مبكر جداً، العام 1992، وبينما دخان حرب الخليج الثانية ما زالت تعبق به أجواء المنطقة جميعاً، وهي الروح التي حاول عصمت عبد المجيد أن يعتمدها سياسة للجامعة فكادت تذهب به وبالجامعة وبالعروبة معاً.
لا مجال لمصالحة تتجاوز الماضي، بعد، أقله بالنسبة للكويت.
ومع أن الأعباء النفسية والسياسية والاقتصادية للحماية الأجنبية أثقل بما لا يقاس من »مخاطر« المصالحة، أو التمهيد لها، ولو بعد جيل، فإن الخروج من دائرة الرغبة في الانتقام ما يزال صعباً ولعله ما يزال مستحيلاً، و»الكيدية« ما تزال لها السيادة المطلقة، وتقصّد »إذلال الخصم« يملك المشاعر جميعاً ويعمي عن حقائق الحياة، بالتاريخ والجغرافيا وضرورة حماية الغد من أن يضيع كما يضيع اليوم من دون أن تجيء الطمأنينة، أما الرخاء فقد ذهب كما يبدو ولن يعود، لأن الذين يتولون حراسة اليوم يستهلكونه.
من الكويت إلى مؤتمر الدوحة.
الانتقام لثأر الأمس، وطلب الحماية المسبقة للغد.
لم يعد يهم بأيدي مَن نثأر أو ننتقم، ولم يعد يهم بأسلحة مَن نحمي الغد وثرواته التي تكشف الآن عن مخزونها الهائل.
ماذا تعني العروبة لمن يفترض أنه كان ضحيتها، كأنما مَن اعتدى عليه كان يحقق بعض غاياتها الأحلام، ويرفض أن يحاسب المعتدي بمنطق العروبة نفسها وبمصالح العرب أنفسهم، ومن ضمنهم شعب العراق وليس على حسابهم جميعاً، ومن ضمنهم شعب العراق.. وحتى أبناء الكويت ذاتها!
وبالنسبة ل»مترنيخ الدوحة« فقد أصابه عمى الألوان فلم يعد يميّز بين الأخ وبين العدو، وانتفت صفات العدو عن إسرائيل، حتى وحاكمها أقصى التطرّف، فبات بنيامين نتنياهو بوليصة تأمين على غده، وليذهب عرب الشعارات إلى الجحيم..
… والجدل مستمر في القاعة الممتازة التكييف في الفندق الفخم حول »المستقبل العربي ودور جامعة الدول العربية«!
* * *
حشد من الأسماء اللامعة في قاعة مبردة، لا تفقدها الكلمات الساخنة والعواطف المراقة واللهفة والتمنيات الصادقة أي قدر من برودتها.. وحتى حين يدور الحديث عن القابضين على جمرة الوعي، أو تهرب الكلمات من المعقب أو المشارك في النقاش، أو يهرب هو من مواجهة الموقف في عينيه، ويهرب السامعون إلى أي شيء يأتي بالشرود، أو يتأتئ المفكّر وهو يستذكر أسماء أصحاب المعالي والسعادة، ثم يغدو فصيحاً وهو يتقدم بالشكر، حتى عندئذ فإن البرودة في القاعة لا تنزل درجة واحدة، ولا ترتفع الحرارة درجة واحدة.
الكل يبدأ بالمقدمة نفسها ويسرد الحيثيات ذاتها لكن الاستخلاص ليس موحداً.
والجامعة ضحية سهلة: الكل يمد يده إليها بالتأنيب مع وعيه بأنها إنما وُلدت عاجزة، وأن آلية اتخاذها القرار تعطله ثم إنها لا تملك ما يمكِّنها من دفعه إلى حيز التنفيذ.
الدولة القطرية حاضرة، بل هي ثقيلة الحضور، ومشكلات حمايتها، من الداخل والخارج، تأخذ الاهتمام كله، فمن أين تجيء القومية؟!
النقاش يتدرّج، فيشحب مستقبل الوطن العربي لتحتل الواجهة المخاطر على مستقبل الأنظمة، وتبرز »العولمة« خطراً على الهوية العربية، ويرفع بعض المغاربة أصواتهم محذرين من انقراض اللغة العربية.
أكلت الأيام بريق الأسماء، وذهبت مهابة السلطة، وليس بالضرورة أن تعوّض سمعة »الدارس« أو الباحث أو حتى المفكر عن جسامة الخسارة. هو هنا واحد من كثيرين، معظمهم لا يعرفه، وليس بينهم مَن يخافه، ولعله هو بين الخائفين، ومن تجربته بالذات وضحاياها الكثير في دولته القطرية!!
* * *
حضر »القلق« بكثافة، برغم غياب المعبّر الشجاع عنه والداعي إلى الندوة لمناقشة أسبابه وكيفية تدارك نتائجه، وكذلك برغم غياب المنظّم في نقاهة بعد الجراحة الخطيرة.
على أن المنتدين قد استحضروا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في مستهل كلماتهم كما في ختامها، وكذلك فعلوا مع »الرئيس« علي ناصر محمد، لأنهم أتاحوا للقلق منبراً يرفع منه صوته.
وبالتأكيد فإن صدى هذا »القلق« سيضج في أجواء الكويت التي لم تطمئنها الحماية الأجنبية إلى حاضرها، وفي أجواء الدوحة التي لن يطمئنها المؤتمر الأميركي الإسرائيلي إلى غدها.
والنقاش ما زال مفتوحاً، وهو سيرفع صوته أعلى فأعلى لأن القلق إلى ازدياد وليس إلى تراجع.
لكن المبادرة إلى طرحه علناً تستحق التنويه.
والشيخ زايد كان دائماً سبّاقاً إلى المبادرة وإلى رعاية العمل من أجل توحيد الموقف ومواجهة المخاطر بالاجتماع لا بالتفريق، وبالأهل لا بالأجنبي، فكيف بالعدو الصريح؟!
والمبادرة طيبة، مهما كانت متواضعة نتائج ندوة القلق في أبو ظبي.

Exit mobile version