طلال سلمان

.قطر والإبتزاز المفتوح…

عندما تورّط أنور السادات، وورّط الأمة بعده، في رحلته الإسرائيلية (التي لم يعد منها) كان التبرير الشائع: ربما يكون قد أخطأ أو تعجّل، ولكنه بالنتيجة قد استرجع أرضه المحتلة وأعاد سيناء إلى مصر..
… وحتى اليوم ما زالت مصر تبحث عن نفسها وعن دورها المفتقد، وتحاول نفي ما قيل يومها حول الخشية من أن نستعيد سيناء ونخسر مصر..
هذا عن مصر، بكل ثقلها وبكل تاريخها النضالي وبكل جدارتها بالقيادة وأهليتها لأن تلعب دورها الطليعي مستندة إلى تأثيرها الثقافي والفكري ووهجها الديني وموقعها الجغرافي الحاكم إضافة إلى وزنها البشري وكونها صلة الوصل بين المشرق والمغرب وبين العرب وأفريقيا والمرتكز الأهم لمكانتهم الدولية.
أما قطر فثقيل عليها الدور الذي يبدو أنها أُلزمت به ودُفعت إليه دفعاً ودائماً تحت هاجس تأمين نفسها من أهلها وإخوتها الأقربين.
وهو عبء لا تستطيع قطر، الصغيرة حجماً والمحدودة نفوذاً، أن تقوم به، خصوصاً وأنه يدفعها لمواجهة أهلها والمشاغبة على مصالحهم الحيوية، وربما على مصائرهم ذاتها.
ولعل بعض العرب قد وجد لقطر شيئاً من العذر في الاستعانة بالأجنبي يوم استشعرت خطراً عليها من دولة إقليمية كبرى كالسعودية… ومع ذلك فإن أكثر العرب لم يقبل من قطر اندفاعها نحو إسرائيل، حتى وهي تبرّر هذا السقوط بأن »الضرورات تبيح المحظورات«.
ومع أن قطر لم تكن، آنذاك، وحيدة في مغامرة التحالف مع العدو ضد الشقيق، أو تبسيط الأمر بتصويره أنه إقدام قد يكون مبكراً على ما لا بد منه ولو بعد حين،
فقد ظلت العلاقة مع إسرائيل نقطة سوداء في سجل الحكم الجديد في قطر، والذي قدم نفسه بهوية قومية صريحة.
وحين انعقدت القمة العربية في القاهرة، قبل عام، وأعلنت قطر، في جملة من أعلن من الخارجين على وحدة الصف أو وحدة المصلحة أو وحدة المصير أو وحدة الهدف إلخ، التزامها بعدم التفرد وعدم الاندفاع أكثر مما يجب على طريق الصلح المنفرد، رحّب الجميع بعودة الإبن الضال الى موقعه في حضن أمته فإن صالحت صالح معها وإن واجهت واجه معها حتى تتيسر فرصة لتسوية مقبولة (ولو بالحد الأدنى) بين شروطها البديهية: وحدة الموقف العربي!
اليوم تبدو قطر وكأنها متورطة في علاقة باهظة التكاليف عليها إذ يفرض عليها ألا تخاطب واشنطن أو تصل إليها إلا عبر إسرائيل، وبينما التطرف الإسرائيلي في ذروة اندفاعه التوسعي ورفضه لأية مساومة من أجل التسوية مع الأطراف العربية المعنية مباشرة بالصراع يستوي في ذلك الفلسطيني المندفع في مقامرة انتحارية، أو قلعة الصمود الأخيرة التي تضم سوريا ولبنان، أو حتى مصر التي تتبرّع مكرهة بدور »الوسيط« بعدما انسحب الأميركي من دوره كراع للتفاوض وضامن للتسوية التي تكاد أن تكون »اتفاق إذعان«.
ان البوابة اضيق بكثير من ان يستطيع عبورها امير قطر ببنيته المتينة، ثم انها منخفضة بحيث تجبره على الانحناء بأكثر مما يطيق ومما يرضى له اي عربي.
فلكي يصل امير تلك الدولة الغنية بمواردها، الصغيرة بحجمها، الى البيت الابيض، كان عليه ان يبدأ بالمنظمات الصهيونية وبالتجار الاسرائيليين (المقابلة الاولى كانت مع رئيس اتحاد غرف التجارة الاسرائيلية دان غيلرمان)..
ان الابتزاز لن يتوقف، وسيكون على قطر ان تدفع ليس فقط كلفة احتلالها واسترهان ارادتها، وخسارة دورها العربي، بل ايضا معظم مواردها، ثم انها ستفقد هويتها الاصلية ولن تعوضها العلاقة مع اسرائيل او حتى مع الولايات المتحدة الاميركية شيئا من ذلك، بل انها ستصبح اكثر احتياجا، وبالتالي اكثر ارتهانا لحماية متوهمة من المعترضين على انفرادها وخروجها من جلدها، ومن ثم ستصير عبئا على »حماتها« هؤلاء فيعتصرونها ثم يرمونها الى مصيرها..
…. وها هو درس عرفات جلي وناطق ولا يحتاج الى من يشرحه.
بالمقابل فإنه كثيرا ما كان يحلو للمسؤولين القطريين ان يأخذوا على الكويتيين ادارتهم لموضوع خلافهم مع العراق، الذي انتهى بأن »ألغى« الكويت، عمليا، اذ حولها الى مجرد محمية اميركية تتفاقم مشكلاتها الداخلية الى حد التفجر، ويأخذها افتقاد الهوية الى شيء من الهجانة، بينما ذهبت ثروتها كلها من دون ان يتوفر لها الأمن، لا امنها كدولة ولا امن شعبها كمواطنين.
ها هم القطريون يتورطون في خطأ اشنع،
فليس لهم مثل عذر الكويت، اصلا، ولا الكويت المحمية الاميركية؟! ارتضت ان تساق سوقا الى الصلح مع اسرائيل، بينما الدم العربي ما يزال يسيل داخل فلسطين وعلى حدودها العربية.
اما قطر فإنها تدفع سلفا ثمن حماية ليس مؤكدا انها ضرورية، وليس مؤكدا انها تحمي فعلا، لا سيما اذا ما ترجم القطريون ما عبروا عنه من »عواطف« تجاه الاسرائيليين، علنا، وفي صحيفة وزير الخارجية المتشاطر بأكثر مما يجب وفي ما لا يجوز.
هل فات اوان الرجوع عن الخطأ؟! وهل بات التراجع اكثر ايذاء من التوغل في حقل الالغام الاسرائيلي المموه بالعلم الاميركي؟!
قد يقول المستشار الفصيح: لماذا هذه الضجة على المؤتمر الاقتصادي الدولي في الدوحة، بكل ما يستلزمه من تنازلات، وقد عقد من قبل في ثلاث عواصم عربية آخرها القاهرة (ومن قبلها الدار البيضاء ثم عمان)؟!
والرد بسيط: ان ذلك المؤتمر الذي كان مرتبطا بمسيرة التسوية الى حد كبير، والذي كان يرتكز الى احلام شمعون بيريز (المسالم؟!!) في الشرق اوسطية، لم يعد ذا موضوع بعدما تعطلت مسيرة التسوية وانطوى »عصر« بيريز وشرق اوسطيته، واستطاعت القاهرة تحويره الى ما يكاد يكون مؤتمرا مصريا عانت فيه اسرائيل من عزلة فعلية فكادت تنسحب منه احتجاجا..
وببساطة ايضا يمكن الرد بالقول: الدوحة ليست القاهرة، ولا تملك ان تجعله مؤتمرا قطريا او شبه عربي، طالما ان المشاركة الاسرائيلية ستكون على حساب العرب جميعا سواء أغابوا ام أحضروا بمذكرات جلب اميركية.
لقد كان الامل »بالعهد الجديد« في قطر ان يضيف الى الرصيد العربي لا ان يخصم منه،
وليس مقبولا من قطر، وفي هذه اللحظة بالذات، ان تكون المبادرة الى تجميل الصورة الكريهة، دولياً، لبنيامين نتنياهو، وان تمضي في مغامرتها غير المأمونة فترضى بان تكون »الثغرة« او »حصان طروادة« لكي يجتاح التطرف الاسرائيلي الجزيرة والخليج، متكئاً على التحالف الاستراتيجي مع تركيا، تحت الرعاية الاميركية.
انها مهمة أثقل من ان تستطيع قطر القيام بها،
ومناخ الهزيمة ليس عذراً لأن نمكن للهزيمة في الارض، بأنفسنا، ثم نشكو ظلم الأقدار بأننا أعجز من ان نواجه وأعجز من ان ننهض، ولكننا نستطيع القيام بدور قاتل اخيه.
***
تحية لعبد الله النيباري..
للكويت في الذهن العربي اكثر من صورة، لكن عبد الله النيباري هو رمز ناصع للانسان في الكويت.
ليس كل من في الكويت شيوخ نفط، كالذين تبرع الصحف والمجلات الغربية وريش رسامي الكاريكاتور في تقديمهم الى قرائها والتشهير عبرهم بالعرب جميعاً،
في الكويت، كما في اي قطر خليجي، بشر طبيعيون، يكدحون ويأكلون لقمتهم بعرق الجبين، يحملون في قلوبهم وفي عقولهم عقيدتهم يدعون اليها ويدافعون عنها في وجه محتكري السلطة والثروة، وفي وجه »المرتدين« و»الانفصاليين« الطامحين لأن يهربوا بالثروة من اخوتهم الفقراء ولو انكروا انتماءهم الى الصحراء والبشرة السمراء.
عبد الله النيباري هو واحد من الذين اعطوا عمرهم لقضية العروبة والحرية والديموقراطية وكرامة الانسان.
والرصاص الذي اطلق على عبد الله النيباري وعقيلته هو محاولة اغتيال لكل انسان عربي، مؤمن بأرضه، مؤمن بالحرية والديموقراطية وكرامة الانسان.
من قلب الناس الطبيعيين جاء عبد الله النيباري، ومعهم عاش، وباسمهم ولأجلهم ناضل السنين الطويلة، وتعرض للاضطهاد والظلم وحرمانه من حقوقه الطبيعية كمواطن وكإنسان.
وعندما وصل عبد الله النيباري ورفاقه الى المجلس النيابي في الكويت كانت تلك شهادة لوفاء الكويتيين وإيمانهم بعروبتهم، كما كانت شهادة للنظام الكويتي اعادت اليه بعض الاعتبار وقدمته على أنه يأخذ بالديموقراطية ويحترم ارادة مواطنيه، ولو بالحد الادنى.
حفظ الله عبد الله النيباري، احد رموز النضال العربي في الزمن الصعب، ولعل المحاولة الآثمة لاغتياله تنبه النظام الكويتي الى ان الفساد قاتل، وان المفسدين مستعدون لتدمير الوطن كله من اجل حفنة اخرى من الدورات!

Exit mobile version