طلال سلمان

قراءة لبنانية في ديموقراطية اميركية

لا مجال للمقارنة، إلا من باب تسجيل المفارقات، بين »الانتقال السلمي للسلطة« في الولايات المتحدة الأميركية، أمس الأول، وفي لبنان قبلها بسنتين، كمرحلة أولى ثم قبل ثلاثة شهور كمرحلة ثانية (وليس مؤكدا انها نهائية..).
فأما التشابه فيكاد ينحصر في مضامين »خطاب القسم« في ساحة النجمة في بيروت، وفي ساحة الكابيتول في واشنطن، برغم أن النبرة العسكرية في الخطابين مفهومة من رئيس آت من قيادة الجيش أكثر منها وهي تأتي من رجل أعمال يتحدر من أسرة نفطية عظيمة الثراء ومن بيت »رئاسي«، إذ سبقه أبوه إلى الحكم باسم الحزب الجمهوري.
بعد ذلك تتوالى المفارقات:
فالرئيس في لبنان وصل إلى سدة الحكم بالإجماع..
أما الرئيس الأميركي فقد وصل بأكثرية صوت واحد، هذا إذا ما تناسينا الطعون العديدة التي شغلت المحاكم الفدرالية العليا في واشنطن والدنيا في ولاية فلوريدا..
كذلك »فالعهد« الذي بدا وكأنه في لبنان قد خرج من صلب السلطة القائمة، أعلن في اللحظة الأولى وعبر »خطاب القسم« انفصاله عنها، ثم مضى في تأكيد »اختلافه« عنها إلى حد المطالبة بمحاسبتها، ولو استطاع لبعث بمعظم رموزها إلى السجن.
وليس إلا بعد سنتين من »الحرب المفتوحة« حتى عاد الوئام إلى قمة السلطة، أو أعيد إليها بقوة الاحتياج إليه، وباضطرار كل طرف إلى الاعتراف بالآخرين، وإن ظلت المناخات »مكهربة« تكفي شرارة واحدة لإشعال حريق يهدد المؤسسات جميعا ويكاد يشل دورة الحياة، ويلقي ظلالاً من الشك حول قدرة البلاد على تجاوز أزماتها الظاهرة والكامنة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وأما »خطاب القسم« فقد تراجع من كونه »خطة عمل« لبناء دولة جديدة لينتهي »وثيقة تاريخية« تؤكد افتراقه عن الواقع السياسي اللبناني والعجز عن تنفيذه، فضلاً عن النقد المباشر للهجته الجازمة بأكثر مما تحتمل »الديموقراطية« التي لا تفتأ تستولد قواعد سلوكها لبنانيا من الحساسيات الطائفية والمذهبية.
على أننا نتميّز كلبنانيين عن الأميركيين بأن »إجماعنا« شامل بينما انقسامهم مؤكد: فأهل السلطة عندنا وصلوا إلى مواقعهم العليا بانتخاب يكاد يماثل الإجماع، سواء على »المستوى الشعبي« أو في البرلمان، (رئيس الجمهورية، رئيس المجلس النيابي، رئيس الحكومة… إضافة إلى أقطاب أساسيين في الحكومة ومن حولها، مثل نائب رئيس الحكومة، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتمثل بثلاثة وزراء الخ).
برغم ذلك فإن »كل السلطة« الآتية بالإجماع عندنا تبدو مهزوزة الآن، بل وتكاد تبدو مهددة بأزمات مفتعلة، بسيطة في ظاهرها، شديدة التأثير على صورة الحكم في نتائجها.
بين الأمثلة الفاقعة هذا الخلاف »الفقهي« مبهم المنطلق والمؤدى حول الأمانة العامة لمجلس الوزراء، أو الآخر حول الحق في الجمع بين الاختلاف في الموقف السياسي والمشاركة في الحكم، أو الثالث حول الضريبة المقترحة لتمويل المتعاملين مع الإعلام الرسمي أو الطامعين بثروة مقابل الخروج من التلفزيون الرسمي، عدا عن الموقف من الوجود السوري، أو حول »المفقودين« على الضفة الشرقية والذين ليسوا كمثل »المفقودين« على الضفة الغربية، وكل منهم قضية ينقسم عليها الناس، أو يجب أن ينقسموا فيذهب الإجماع!
وأما في البلاد الأميركية فإن الانقسام الشعبي الحاد الذي رافق الانتخابات الرئاسية وعلق إعلان النتائج ومعرفة اسم الرئيس الجديد لستة وثلاثين يوما طويلة وأدخل البلاد في منازعات قضائية حادة لم تعرف لها مثيلاً، كل ذلك ظل مضبوطا ضمن الأصول الديموقراطية وحق التعبير عن الرأي والدفاع عن ذلك الرأي حتى في حفل التنصيب!
فقد أنهى جورج بوش »خطاب القسم«، كرئيس جديد يأتي من جبهة »المعارضة« للرئيس الذي بات الآن »سابقا«، بإعلان مباهاته بالأميركيين، معارضين ومؤيدين.. أما آلاف المعارضين الغاضبين فكانوا يصادمون رجال الشرطة في الشارع الموازي، معلنين رفضهم الاعتراف بشرعية رئيس نال من »الأصوات الشعبية« أقل مما نال منافسه، وكانت استطلاعات الرأي تدل أن أربعين في المئة من الأميركيين يرون رأي المتظاهرين، وإن لم ينزلوا إلى الشارع كما فعل »رفاقهم« الديموقراطيون في واشنطن ذاتها كما في باريس عبر المحيط الأطلسي.
برغم ذلك فإن الرئيس الأميركي الجديد الذي كان يسمع في لحظة »تتويجه« هتافات الطاعنين في شرعيته، فقد أنهى خطابه بالقول إنه »فخور بالأميركيين«، بينما الشارع خلفه يتحول إلى ساحة عراك بين الشرطة وجمهور »الديموقراطيين المهزومين« الذين يشعرون بأنهم فقدوا منصبا كان من حقهم بعدما نالوه بأصواتهم، ثم جاء فسرقه منهم »الساذج« أو »الأمي سياسيا« و»الصبي الذي تعب أبوه من محاولة تعليمه«، بحكم المحكمة العليا وخلافا لإرادتهم.
هناك يبدأ »العهد« بالانقسام الطبيعي في مجتمع يقوم على نظام الحزبين، يتناوبان على السلطة، بعيدا عن أي إجماع…
وهنا يبدأ »العهد« بإجماع سرعان ما يتهافت تحت ضغط الساعين إلى السلطة من خارج الأحزاب والخلاف السياسي المحدد، وبالاستغلال الواسع النطاق للحساسيات المذهبية والطائفية التي يصعب إدراجها ضمن قواعد الصراع السياسي ومن ثم داخل الأطر الديموقراطية.
وماذا لبنان كبلد أقليات ازاء امبراطورية الأقليات في الكون، الولايات المتحدة الأميركية، حيث تختلط القوميات بالعنصريات بالأديان فضلاً عن الطوائف والمذاهب والتي يتخطى بعضها حدود المنطق والعقل والمألوف إلى كل »مستطرف مستطرف« لا سيما على المستوى الاجتماعي..
الرئيس الأميركي فخور بمواطنيه، معارضين ومناصرين،
وحتى إشعار آخر لا يبدو الأميركيون، أو نصفهم على الأقل، فخورين برئيسهم الجديد… مع ذلك فالنظام بخير، والدولة بخير، والمجتمع بخير، وكل ما حدث يمكن اعتباره شهادة على الأخذ بالديموقراطية والإيمان العميق بها.
أما في لبنان فلا تبدو السلطة فخورة بشعبها، ولا يبدو المواطنون متوافقين في مواقفهم من سلطتهم، فضلاً عن أن يفاخروا بها… وهم يمارسون اختلافهم هذا بالديموقراطية الطائفية أو بالمذهبية الديموقراطية!
أين منا الأميركيون السذج الذين لا يفقهون شيئاً في السياسة، التي نحن من »اخترعها«!
رئيس ساذج لشعب ساذج!
أما نحن فالعبقرية تملأ الأمكنة جميعا، تحت وفوق.
ربما لهذا لا تبقى مساحة كافية للديموقراطية!

Exit mobile version