طلال سلمان

قراءة في مطالب حجيج

أخيراً… هدأت خواطر اللبنانيين، ولله الحمد، بعدما امكن تحقيق معجزة «حكومة الوفاق الوطني» خلال مدة قياسية، اذ لم تتجاوز الشهور الخمسة، ثم امكن إنجاز البيان الوزاري الخارق للعادة خلال أقل من اسبوعين، بتوفيق منه سبحانه وتعالى، واستنقذ عيد الأضحى المبارك بكل طقوسه، وأهمها المعايدات والتبريكات والتهاني والمجاملات، رسمية وشعبية، داخلية وعربية ودولية بامتداد الكون.
أما سائر العرب والمسلمين فقد ذهبوا بهواجسهم وأسباب قلقهم الى مكة المكرمة فأدوا مناسك الحج جميعاً قبل ان يقفوا في «عرفة» ليطرحوا مطالبهم على الرحمن عله يتدخل ـ سبحانه وتعالى ـ فيخفف من كربتهم، ويعينهم على تحمل أثقال اوضاعهم المزرية التي يتخبطون فيها في «احضان» الاحتلال الاجنبي والطغيان الداخلي، وافتقاد الأمل، والتيه داخل بؤس الحاضر عن مستقبلهم الذي كانوا يفترضون انهم قادرون على استخلاصه من براثن اعداء حقهم في الحياة فأفشلهم ضعفهم او اضعافهم المنهجي، فلم يتبق لهم من ملجأ او ملاذ إلا الله، جل جلاله.
كان يكفي ان تتابع المشاهد المؤثرة لطوابير الملايين الثلاثة الذين قصدوا بيت الله الحرام لتنتبه الى انهم تبدوا ـ من قلب ايمانهم العميق ـ وكأنهم يطلبون نجدة عاجلة من العزيز القادر على كل شيء، الجبار على الظالمين من الطغاة قساة القلوب والذين يزعمون زوراً وبهتاناً انهم ظل الله على الأرض: لم يطلب أي حاج حفظ حاكمه، بل لقد حاول الاستعانة بالله على حاكمه. وهو على الأغلب طالب، ولو في قلبه، القادر على كل شيء بتخليصه من حاكمه قبل ان يذهب بالوطن.
لقد جاءوا الى «البيت الذي باركنا حوله» باعتباره الأمل الأخير في الإنقاذ، اذ لا يستمع إليهم ولاة الامر في بلادهم ولا هم يستجيبون لمطالبهم البسيطة حتى لتتبدى بديهية… وكان ذلك ممكنا لو ان حكامهم كانوا طبيعيين ومن طينتهم نفسها كما يزعمون.
من أين نبدأ؟ من اليمنيين الذين غادروا بلادهم وهي دولة ولا يعرفون إذا ما كانوا سيجدونها، عند عودتهم ـ إذا ما عادوا ـ دولة واحدة او مزقاً متناثرة وسط الحرائق، يتناهبها جيرانها والقوى السياسية المختلفة والتي لا تغطي الشعارات، مقدسة او «تقدمية» حقائق مكوناتها القبلية، الحوثية منها وتلك المنتسبة الى «بكيل» او الى «حاشد»، او تلك التي تعبر عن طموح الى «انفصال» ثبتت عبثيته، لكن الطامحين الذين «اعطوا ملكا فلم يحسنوا سياسته فخلعهم» ما زالوا يتوهمون ان تكرار الفشل هو «جوهر الصراع الطبقي» في بلاد ليس للطبقات من أثر جدي إلا في البيوت والدور اليمنية الشاهقة علواً، على فقر أهلها.
أما من العراق فقد جاء الخائفون على وطنهم المهدد بالتمزق ودولتهم المهددة بالتفكك تحت ضغط الاحتلال الاميركي وكل عوامل الفرقة التي رعاها وكل اسباب الفتنة التي كانت نائمة فأيقظها وترك ألسنة نيرانها تتمدد الى دول الجوار، وقد رأى بعضها فيها استثماراً مجزياً، ورأى فيها آخرون خطراً ضد الآخر لا يطاول تحصيناته التي يفترضها منيعة فأخذ يغذيها بالمال والرجال الذين نبذتهم أوطانهم فتحولوا الى مرتزقة يعملون لحساب من يدفع، لا ينفع في طمس حقيقتهم لا الشعار الديني ولا الادعاء بأنهم انما يحمون الهوية الوطنية بالعنصرية، او يقاتلون لاستنقاذ العروبة من حضن الاحتلال.
من فلسطين جاء خمسة «شعوب»، ربما ستة، بل سبعة على الارجح، وقد يعودون من الديار المقدسة الى أرض القداسة عشرة «شعوب»: فأهل غزة جاءوا يطلبون الهواء قبل الغذاء، ويحاولون استعادة علاقتهم مع اخوتهم في الضفة الغربية الذين فصلهم عنهم «صراع السلطتين» فوق أرض محتلة، بمائها وترابها وسمائها، وكل من فيها يتوزعون بين شهيد وسجين ومعتقل او مطارد، بغير ان نذكر من ضعُف فانحرف، او من جنده الاحتلال «مخبرا»، او من شطرته «السلطة» نصفين مقتتلين بلا اسم وبلا هوية، في حين بقيت «القضية» معلقة في الفضاء لا تجد من يقوى على حفظ أرضها او حماية شعلتها المقدسة.
أما فلسطينيو الشتات فقد اتسع نطاق انتشارهم باتساع الكرة الارضية، وافتقدوا الرباط في ما بينهم بعدما اندثرت منظمة التحرير في غياهب «السلطة» الأسيرة والتي عجزت ان تكون الطريق الى الوطن… وقد تعلم العرب ان «السلطة»، عموما، تصير البديل من الوطن فلا تأخذ إليه بل هي تأخذه فتلغيه.
…وأما «فلسطينيو 1948» فيحاولون تعويض غياب من انتظروهم كمحررين فإذا بهم يتأخرون عنهم تاركين لهم موقع «الطليعة» الذي لا يقدرون عليه، فارتضوا بأن يقدموا النموذج الراقي للصمود الوطني في وجه الاحتلال الإسرائيلي، المتشبث بحقه في وطنه، لا هو ينساه ولا يبيعه، ويقدم جهده حيثما استطاع في ظل أسره، ونسيانه المتعمد ـ عربياً ـ، وها هو قد تقدم ليحمي «المسجد الذي باركنا حوله» في القدس الشريف، وما زال يحاول حمايته بالصدر العاري، في انتظار القادمين للتحرر الذين طال انتظارهم… فذهب يبحث عنهم بين الحجيج في مكة المكرمة، لعلهم اضاعوا الطريق او تاهوا عنه فيرشدهم إليه!
من مصر جاءت طوابير الخائفين: بينهم الخائف من الملتحين، وبينهم الملتحي الخائف من السلطة، بينهم الخائف من التوريث، وبينهم الذي جاء نفاقاً لعل الحيلة تجوز فيتم أمر انتقال السلطة من الوالد الى الولد عبر «حرب الكرة» على الجزائر بعدما شهدت الخرطوم احدى اخطر جولاتها، وقد خرقت فيها كل المحرمات… وها قد جاء من خرقوها وقد عفروا وجوههم بالتراب إعلانا للتوبة وطلبا للمغفرة عبر التوريث وبه ومعه. وهنا فقط، وعند هذا المطلب، يتلاقى الجزائريون والمصريون، وفي المطلبين.
أما من السودان الذي جاء حجيجه هارباً من حاكمه، يسبقه خوفه من الانفصال الذي سوف يجعل الوطن الواحد أوطاناً بعدد جهاته، او ربما بعدد القبائل ودرجة الزنوجة في كل جهة، فاقصى اماني هؤلاء الذين ولدوا في قلب الايمان ان يتم الامر بهدوء، مسلّمين بقدر الله الذي يستثمره الاستعمار الجديد، بأشكاله كافة. فليذهب كل سوداني في حال سبيله، وكفى الله المؤمنين القتال… بالتفكك المستدرج عودة الاحتلال، حتى من غير جنود!
وقف ملايين المؤمين وجهاً لوجه امام الله سبحانه وتعالى، وهو ملجؤهم الاول والأخير، يتوجهون إليه بالدعاء وقد غطت دموعهم وجوههم، وبعد ذلك توالت المطالب: اللهم، ازل عنا هذه الغمة (والغمة هنا الحكام)، اللهم اهلكهم لتنقذنا نحن عبيدك الذين أمنا بك وإليك المآب. اللهم خلصنا منهم يا ارحم الراحمين!
افقر اهل الارض هم ابناء اغنى الارض. والأغنياء سوروا مصادر ثرواتهم بالحراب الاميركية والاسرائيلية. لا تهم جنسية هوية الحارس… فليأخذ نصف الثروة حلالاًَ زلالاً، بشرط ان يُبقي لهم ما يعجز عن اخذه… ذلك يكفيهم!
لكأن المساكين ذهبوا يحاكمون قادتهم العظام امام الله سبحانه وتعالى…
هم يعرفون ان حشودهم مخترقة برجال المخابرات (وبالنساء ايضا) لكنهم سيجدون، لا بد، لحظة يرفعون فيها إليه مطالبهم التي لا بد يعرفها وهو العارف ما في الصدور.
حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً للمؤمنين، وعوداً حميداً الى ما كنتم فيه وما لم ولن يغيره الدعاء: ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ولله الحمد من قبلُ ومن بعد!

Exit mobile version