طلال سلمان

قراءة في لقاء لة تاريخ

المشهد جميل كالأمنية: سعد الدين رفيق الحريري يتقدم برأس مرفوع وعلى الوجه طيف ابتسامة نحو بشار حافظ الأسد الذي كان ينتظره في قلب اللهفة في مدخل قصر تشرين، ضيفاً استثنائياً يستحق امتياز الملوك والرؤساء، وقد سبقته ابتسامة عريضة إلى احتضان هذا «الغالي ابن الغالي» الآتي من خلف لوعة الفقد وركام الظنون والشكوك والريب والاتهامات التي تجاوزت كل حد وكادت تحوّل الروابط بين البلدين المتداخلين ـ المتكاملين في الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الإنسانية والمصالح إلى حقول ألغام وفخاخ قاتلة للأخوين التوأمين…
تعانقا كصديقين قديمين، وجلسا ليستغرقا على الفور في حديث مرجأ لتعذر اللقاء خلال مرحلة قاسية من تاريخ مشترك كتبت سيرته الحروب: حروب الخارج في الداخل وحروب الداخل من أجل الخارج، ثم الحروب على الداخل بين أهل الداخل، والداخل دواخل، والأهل الذين كانوا أهلاً انقسموا على ذواتهم فضاعوا وأضاعوا الطريق والهدف أو كادوا.
كانت الذكريات تنثال نهراً متدفقاً، فالأبوان ملآ الدنيا حركة: أولهما بصموده الخارق لضغوط «الكبار» والإغراءات التي كانت تحاول إقناعه بالتخلي عن المقدس مقابل نفوذ على حساب الأضعف من الأشقاء، وثانيهما بحركته التي لم تكن تهدأ والتي امتدت من عالم المقاولات والبناء ومغامرات المال والاستثمار إلى عالم السياسة والعلاقات الدولية التي وظفها، ذات يوم، لحماية المقاومة من أجل إنجاز التحرير.
كان طيف الوالدين الراحلين يضفي التهيّب على الخطوات المدروسة التي قطعها كل منهما في اتجاه الآخر. كان على كل منهما أن يحرّر نفسه من أثقال كثيرة، بعضها استولدتها الظنون والريب، وبعضها جاء ملفوفاً بطيات المؤامرة على البلدين، منها ما يدفع نحو التقارب إلى حد العناق، ومنها ما يحرّك المخاوف والمحاذير من تربص المتربصين شراً بهذا التلاقي الذي جاء من خارج التوقع.
لا تكفي الساعات لكي يقول كل منهما للآخر ما راكمته سنوات الجفاء. لكن دقيقة واحدة كانت حاسمة لاتخاذ قرار الضرورة: لا بد من اللقاء. لا بد أن يسمع كل منهما ما لدى الآخر، وهو كثير كثير، فيه الحزن المقيم، وفيه الذكريات الحميمة. فيه ما قد ينغص، وفيه ما يفرح، لكنه جميعاً من الماضي الذي يمكن أن يضيء طريق المستقبل.
لقد انتهى زمن الأخطاء، وكان ضرورياً أن ينتهي. هكذا يتمنى الناس في البلدين اللذين رأى إليهما حافظ الأسد «شعباً واحداً في دولتين»، واجتهد رفيق الحريري لأن يثبت بجهده صحة هذا الشعار. انتهى أيضاً زمن الأوهام ومنها أن بضعة من الضباط والسياسيين نهازي الفرص يمكنهم أن يبنوا علاقة صحية بين بلدين متقاربين إلى حد التكامل ولكنهما مختلفان في نظام الحكم وفي نمط الحياة وفي طبيعة النظر إلى الذات وإلى الخارج.
[ [ [
على الطريق بين المطار وقصر الضيافة كان طيف رفيق الحريري يظلل نجله الذي يدخل دمشق رئيساً لحكومة الوفاق الوطني في لبنان. من قبل دخل الأب من دمشق إلى حيث اصطنع مجده السياسي في بيروت، بغير أن يتخلى عن العباءة السعودية: «أتمنى، يا سيادة الرئيس، أن تأخذ في الاعتبار أن السعودية صاحبة فضل على ما أنا فيه، فلا تحرجوني معها»… ورد حافظ الأسد على رفيق الحريري مطمئناً: «بل هذا بين أسباب ثقتنا فيك، فاطمئن، لن تجد منا إلا الدعم والعون والمساعدة على تذليل الصعب».
سعد الدين رفيق الحريري في دمشق الآن، لا هو غريب فيها ولا هي غريبة عليه. بيته فيها وزوجته منها، ومنها انطلق أبوه إلى سدة الحكم في بيروت، وإليها يعود ليكمل المسيرة. لكأنه في زيارة إلى بيت أبيه في العاصمة التي طالما صنعت التاريخ. ثم إن لمسات رفيق الحريري تطل من جنباتها كافة، في الذهاب من المطار إلى القصر وفي العودة ثمة محطات تحمل بصماته.
الماضي مضى… ورجال الماضي منارات هداية إلى المستقبل.
الجغرافيا هي بيت التاريخ، وهما معاً يحكمان السياسة.
سوريا هي الأرض. فلسطين في القلب، ولبنان بوابة العالم. ليس الممر ولا المقر لمن يريد شراً بسوريا، بل هو الجسر لمن أراد الحوار، وهو المجاهد بالدم لطرد الاحتلال. متى حمى نفسه حماها، ومتى ضيّع ذاته أصابها في خاصرته.
[ [ [
الرحلة طويلة ومضنية على طريق مزروعة بالألغام والأحقاد ومصالح الآخرين وطمع العدو.
لا تحتاج المئة كيلومتر إلى طائرة، لكن من النباهة تحاشي العواصف والسيول والعواطف التي كثيراً ما استخدمت حواجز مسلحة لقطع الطريق. ما كان قد كان، ولكن الحياة ليست يوماً أو شهراً أو سنة. ليست في الماضي وإن كان منها، وليس يحتويها الحاضر وإن كانت فيه، ولكنها المستقبل أيضاً وهو ما يجب أن يكون، بل ما يجب أن يصنع بالشراكة والتكافل والتضامن.
التاريخ يكتبه ضحاياه، أيضاً.
والتاريخ شاهد، تتواصل حلقاته، قد تضربه عواصف الغضب والريبة والشك، لكنه يواصل مسيرته مفرداً صفحات فيه لمن يعرف كتابته. والجغرافيا رباط لا يمكن فصمه، ولا بديل منها إلا فيها وبها.
شجاعاً كان سعد الحريري وهو يتخذ قراره ـ الامتحان في اجتياز خنادق الخصومة التي صوّرته عدواً وصوّرت له دمشق صانعة الكمائن، المتربصة بمن يخالفها، لا تقبل معارضة أو اعتراضاً، ولو من أجل التكامل المنشود.
ورحباً كان بشار الأسد. استقبل ضيفه كأخ عزيز، كان في البعيد البعيد يحاصره المستفيدون من القطيعة التي كادت تذهب بالروابط المقدسة للأخوة وبالمصالح المشتركة التي وجدها المستعمر ذاته ضرورة للبلدين التوأمين، فعاد إلى أهله فاستعادهم واستعادوه.
لأكثر من سبب، استذكرت بيتاً من الشعر قاله الملك فيصل بن عبد العزيز في استقبال الرئيس جمال عبد الناصر، بعد قطيعة طويلة تحوّلت إلى حرب بعد ثورة اليمن في أيلول 1962، وأجده مناسباً تماماً لهذا اللقاء ـ الضرورة بين الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس حكومة الوحدة الوطنية في لبنان سعد الدين رفيق الحريري:
«وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنّـان كل الظـن أن لا تلاقيـا»
وأفترض أن الملك عبد الله بن عبد العزيز يردد الآن، هو الآخر، هذه الحكمة، خصوصاً أنه كان الراعي السامي للقاء الذي طال انتظاره ثم جاء في توقيته بالضبط لا قبل نضوج اللحظة، ولا بعد مزيد من عذاب الانتظار لما لا بد منه… وإن طال السفر.
والآن، إلى العمل بعدما انفتحت طريق دمشق ـ بيروت عريضة وعلى الخطين.

Exit mobile version