طلال سلمان

»قراءة في كتاب العروبة«

لن تتيسر فرصة أفضل في المكان والمناسبة والزمان لمثل هذا الحديث الحميم عن العروبة(*)، الذي قد يأتي الى نقد الذات أقرب منه الى نقد الآخر، والذي قد يبدو وكأنه خارج اهتمام الناس في هذه اللحظة الحافلة بأسباب اليأس من الذات، حاضراً ومستقبلاً، في حين أن هوية هذه الأرض وأهلها هي ميدان الصراع المفتوح، بالأفكار والسياسات كما بالسلاح والضحايا والدم المؤسِّس لحقبة جديدة من تاريخنا المعاصر.
فالنادي الثقافي العربي، في بيروت، شكّل منذ يومه الأول، وما زال يشكل الحاضنة المثلى للعروبة، كفكرة ثم كحركة بل وحركات سياسية تمتد عبر تحولات الأيام من العروة الوثقى الى حركة القوميين العرب، في حين كانت حالة النهضة تستولد في سياق التحولات المناخ المولّد للبعث قبل أن تخمد الاندفاعة العارمة فتستولد في تراجعها ذلك البحر من »الناصريات« التي كانت إيذاناً بانطفاء وهج العمل الشعبي وغلبة المخابرات وأموال النفط على الدعوة، وانتصار الأنظمة المصفحة بالشعار المزوَّر على الجماهير التي انسحبت من الشارع وقد أغلقت صدورها على أفكارها وعواطفها وأحلامها التي باتت من أسلحة الإرهاب.
والمناسبة معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، وهو السابع والأربعون عدداً هي الفرصة المثلى لقراءة جديدة في الكتاب القديم عن العروبة وأهلها، وهي قراءة نقدية بالضرورة لتجارب غنية وإن كانت قد انتهت او تكاد الى مصير بائس… فلطالما غلّبنا العاطفة والحماسة على العقل، وتعامينا عن الوقائع القاسية والتحولات البائسة التي حرفتنا عن الطريق او أضاعته منا فضيعتنا اعتماداً منا على القدريات وتركتنا مكسورين الى حد التسليم بأننا لسنا مؤهلين ولم نكن في أي يوم مؤهلين للانتصار في أي مجال.
أما الزمان فبداية القرن الثاني من عمر »العروبة«، كفكرة تؤكد انتماء العين الى الوجه، وكدعوة الى نهضة يستعيد فيها إنسان هذه الأرض وعيه بذاته وبحقه في أرضه… ومن المفارقات المفجعة ان نبدو اليوم وكأننا خارج الزمان، فهو ليس لنا ولسنا فيه إلا كغنيمة يتوزعنا الإسرائيلي والأميركي أشلاء، بينما نتوه في جدل المفاضلة بين الاحتلالين وتزكية احدهما او كليهما على الأنظمة التي أعادتنا القهقرى الى ما قبل »النهضة«، فنكاد نسلم بسقوط »النظام الوطني« بل وبعدم أهليتنا كشعوب لتولي شؤوننا بأنفسنا وبشرعية ان نعود الى تحت وصاية المستعمر الأجنبي طلباً للديموقراطية والتقدم وحقوق الإنسان.
* * *
ليس الواقع مفرحاً او مؤملاً، ولكن ثمة »ظاهرة« تستدعي قدراً من التأمل:
فما إن يفرغ العرب من قبول العزاء في عروبتهم حتى يُفاجَأوا بحملة دهم جديدة لعقولهم وقلوبهم ومكتباتهم وكرّاسات أطفالهم لمصادرة كل ما يبشر بالعروبة او يروج لها او يمتّ اليها بصلة.
لكأن هذه »الفكرة« التي تمتزج فيها العقيدة بالعاطفة مستعصية على الموت: كلما ارتاح خصومها ومن تضيق صدورهم بها الى اندثارها اضطروا مكرهين الى الاعتراف بأنها مثل الروح، تسري في الصدور مع النفس، ولا يمكن ضبطها او استئصالها إلا بالقضاء على الجنس العربي جميعاً… فلا مصدر محدداً لها، ولا كيان مستقلاً، ولا دائرة معروفة لمدى انتشارها. انها كالهواء، كنور الشمس، كالحلم، لا تُرى بالعين المجردة، ولا تُضبط بالقيود والسلاسل، ولا يمكن الحجر عليها في زنازين التعذيب.
وتلك ميزة. ولكنها ليست بوليصة تأمين ضد مخاطر الحاضر والمستقبل.
وبالنسبة لأبناء جيلي فقد شهدنا مواكب جنائزية عديدة للعروبة، وتجرّعنا مرارات التشهير بها وبالمؤمنين بها من أمثالنا، إذ رُمينا بالتخلف ومجافاة العصر وتقديس الديكتاتورية وتعظيم الطغيان واحتقار الإنسان وإضاعة الأرض والإصرار على مناطحة الثور البريطاني، الفرنسي، الاسرائيلي واخيراً الأميركي الاسرائيلي بحيث تسبّبنا في ضرب الديموقراطية والحريات العامة وخسرنا فرصة اللحاق بركب التقدم العلمي… الخ.
فالعروبة هي ما أضاع فلسطين، ودمر مصر، وأفقر سوريا، وافقدنا الخليج، وخسرنا معها الجزائر، بغير أن نربح المغرب، وطارت منا ليبيا بغير ان نكسب أفريقيا، وها نحن نندب عراقاً لم تحفظه العروبة ولم تحصّنه.
إذاً، فالعروبة آفة قاتلة… ولكنها لا تموت ولا تندثر مهما اجتمع عليها من السيوف.
ولعل هذا ما استدعى استنفاراً شاملاً لمحاربتها في كل أرض عربية، وهو استنفار جمع الى الصهيونية ودولتها إسرائيل معظم سلاطين أنظمة الظلم والظلام العربية، والى الطائفية والكيانية العنصرية في كثير من الأقطار العربية موجة الديموقراطية بالاحتلال الأميركي التي أطلقها الرئيس الرسول جورج و. بوش.
ما هذه العروبة التي التقى في ساحة قتالها الكفر المطلق والإيمان المطلق؟!
وكيف لا تموت هذه الفكرة الدعوة الحلم برغم كل ما أصابها ويصيبها على أيادي أهلها وأعدائها معاً؟!
* * *
تبدو »العروبة« اليوم وكأنها دعوة طوباوية تتجاوز الوقائع الثابتة والقاسية الى افق من البلاهة السياسية… فلا هي »مؤسسة فكرية« ولا هي »عقيدة او نظرية مؤهلة لأن تُترجَم الى نظام حكم معاصر«، وليس بالامكان تجسيدها في نموذج او اسلوب حياة.
ومن الطرائف ان العروبة التي تؤكد نفسها كهوية للأرض والناس تتبرأ من معظم الحركات السياسية التي رفعت رايتها، ومن معظم الذين حكموا باسمها.
فهي ليست تماما حزب البعث الذي تشقق وتم تحوير منطلقاته النظرية بما يتناسب مع الأنظمة التي قامت باسمه، ثم طغت شخصية الحكام الذين وصلوا الى السلطة بزخم حقبته النضالية في الشارع وبين الجماهير، فصار انتساب الحكم اليه رمزياً.
ومع التقدير للدور التاريخي الذي لعبه حزب البعث في التنوير وفي حشد الجماهير خلف ثالوثه المقدس: الوحدة، الحرية والاشتراكية، فلا بد من الاعتراف بأن تعجُّل الوصول الى السلطة ولو بقوة العسكر، قد أضر بالحزب وأعاق نموه الطبيعي وتكامُل عقيدته عبر الوعي بالواقع والمصاعب الهائلة التي تعترض الوحدة، ناهيك بالاشتراكية، في مجتمعات متخلفة ثقافياً وسياسياً واقتصاديا، ومضطرة في الوقت ذاته الى مواجهة عدو قومي غزا الأرض مصفَّحاً ومعزَّزاً بتأييد دولي لا يمكن صده، وبتقدم علميّ باهر مكّنه من إنجاز ثورة اقتصادية شاملة بالاتكاء على المساعدات الهائلة التي انهالت عليه، وفيها ما هو أخطر من المال: العقول والقدرات العلمية ومخططات ما تم انجازه او ما يجري العمل لانجازه في الغرب من ضروب التقدم في مختلف المجالات الصناعية، بما فيها العسكرية. لقد جاءته الانجازات جاهزة بخرائطها والرجال.
كذلك، فليست »العروبة هي بالتحديد حركة القوميين العرب التي اندثرت في غياهب التشققات والانشقاقات والولاءات التي كشفت ضعف البنية الفكرية لهذا التنظيم الذي لا يُنكَر عليه انه لعب دوراً رائداً في التبشير بفكرة الوحدة، لا سيما بعدما اكتشف في جمال عبد الناصر القائد التاريخي لاستعادة الأمجاد الغابرة وصولاً الى الاندلس…
لقد أعطت هذه الحركة أفضل ما عندها، لكنه لم يكن كافيا لمواجهة الظروف الاسثنائية التي كانت تعيشها الأمة. وبين ما تثبته تجربة الحركة ان الحماسة والعواطف الجياشة المعبرة عن الوجدان لا تغني عن نظرية متماسكة تعبر عن وعي حقيقي بالواقع المتخلف وتجترح حلولاً عملية للأزمة التي يعيشها المجتمع الأمي بأكثريته الساحقة، الناقص المعرفة بأسباب التقدم الاقتصادي، والمستنفر لمواجهة العدو المتقدم جداً والمحصن بتحالفاته الدولية، بينما هذا المجتمع يجهر بعدائه للشيوعية الملحدة وهو يتقدم لمواجهة المستعمر الغربي الذي يتلاقى معه في مدارج الايمان بالله واليوم الآخر.
وليست »العروبة« هي »الناصرية« حتى لو كان جمال عبد الناصر، في حياته وبعد مماته، احد ابطال العروبة الميامين، والقائد الذي قرّب الحلم من الحقيقة حتى قتله نظامه الانفصالي بالتكوين، والمعادي لشعاراته في الحرية والاشتراكية والوحدة بالمصلحة.
ثم إن »الناصرية« بدعة تأكل من لحم »العروبة« وتسيء اليها… فهذه الفكرة الدعوة الرسالة التي تجسد الانتماء الى أرض بذاتها وتاريخ بذاته وهوية بذاتها، أكبر من أي شخص وأبقى من أي قائد وأسمى من أي حزب رفع لواءها. إنها الأصل… والرسالة أسمى دائماً من الرسول. وبها كبر جمال عبد الناصر ومعه كبرت ولكنها كانت قبله وهي باقية بعده.
* * *
إن أخطر الإساءات الى العروبة لم تأت من خصومها، بل هي أتت في الغالب الأعم من حَمَلة شعاراتها، او بالأحرى من الذين عجزوا فناؤوا بحمل الشعار او زوّروه او شوهّوه.
فكيف تُقرن العروبة بالحرية إذا كان رافع رايتها طاغية؟!
وكيف يمكن قبول العروبة كدعوة الى التقدم اذا كان الداعية اليها متعصبا مغلَق العقل والفكر والعين عن واقع مجتمعه؟
إن ثمة نسختين او صورتين للعروبة: واحدة رسمية شوهاء والثانية شعبية هيولية، بلا جسم ولا قدمين.
وكثيرة هي المفارقات التي عاشها العروبيون في صراعهم مع ذواتهم ومع قياداتهم ومع عجز »العقيدة« عن حسم قضية بناء الدولة العصرية، في اقتصادها كما في برامج التعليم، وفي معالجة الفقر والأمية والتزايد المخيف لعدد السكان في وهدة التخلف كما في المواجهة المفروضة عليها مع العدو الإسرائيلي المعزز بقوى الهيمنة الأجنبية.
وعلينا ان نعترف بأن الحركة القومية، بمختلف تنظيماتها، لم تكن جاهزة ببرنامج حكم يأخذنا الى المستقبل.
فالعقيدة غير السلطة، ولا بد من الفصل القاطع بينهما… وبالتأكيد، فإن الحكم أكثر إغراء من المبادئ.
فالعروبة عودة الى الوعي بالذات، تؤسس لنهضة قومية ولكنها ليست بطبيعتها نظاماً للحكم، ولا يمكن ان ينسب اليها أي نظام.
انها اعلان انتماء، وبهذا المعنى فهي منبع للوطنية وليست متعارضة معها، وان تعارضت الى حد التصادم مع الكيانية التي غالباً ما تنتهي الى نوع من العنصرية المعادية للآخرين في الوطن الواحد، فكيف بمن هم خارجه.
* * *
* قبل أيام، اكتشف المحامي المصري محسن لطفي، وهو ابن شقيق المفكر الكياني المعروف أحمد لطفي السيد، حلولاً لمشاكل مصر المحروسة تتلخص في جملة سحرية: نزع مصر من عروبتها.
يقول محسن لطفي: إننا مصريون ولسنا عرباً. العرب أصدقاء لنا وجيران وحلفاء… لكننا لسنا عرباً!
إنه عود على بدء، فلطالما ضاع بعض المفكرين في مصر والكثير من الساسة بين الأفريقية والفرعونية والمتوسطية حتى أعادتهم ضرورة تحقيق شخصية مصر ودورها الى العروبة باعتبارها الغدَ وليست الأمس، وبالأصالة لا بالوكالة.
* ومجيد حسين العراقي وجد الحل لهوية العراق، اذ توجه باللوم الى هوشيار زيباري وهو يدخل جامعة الدول العربية، التي استقبلته بعد تردد، لأنه تحدث باللغة العربية طالباً اليه أن يؤكد الطبيعة التعددية للعراق عبر الاصرار على التحدث الى العرب والعالم بالكردية.
واضاف مجيد حسين فكتب قائلاً في صحيفة يُفترض أنها تقدمية في بغداد تحت الاحتلال: ان من حق كل عضو في مجلس الحكم الانتقالي والحكومة الموقتة ان يتحدث الى العالم بلغته القومية: الكردي بالكردية، والأشوري بالكلدانية، والسرياني بالآرامية… إلخ. وهو قد سمح مشكوراً للعربي العراقي بأن يتحدث بالعربية.
ولم تكن العروبة في أي يوم عدواً للكردي، بل إن العرب يعتزون بأخوّتهم الثابتة تاريخياً للأكراد وهم يفخرون بأن بعض أبرز أبطالهم التاريخيين هم من الأكراد، ويعترفون لهم بالفضل في حماية الأرض وهويتها ودين أهلها سواء أكانوا من المسلمين ام من المسيحيين.
* في الجزائر نشبت انتفاضات وحدثت مواجهات وسقط قتلى وجرحى لأن بعض جماعات البربر قررت ان حل النزف الدموي المتواصل في بلاد المليون شهيد لا يمكن أن يتوفر إلا بالخروج من العروبة بدءا باللغة وانتهاء بالقومية وسائر الروابط التي تأخذ الجزائر بعيداً عن أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، حيث ابتدعت للهجة البربر حروفا وقواعد إملاء سهلت كتابتها بالحرف الإفرنجي.
ولم تكن العروبة في أي يوم خصماً للبربر، ولا هي نَسَبتهم بالإكراه اليها فألغت ذاتيتهم، بل طالما اعتز العرب بالبربر الأخوة في الوطن، والدين والأرض.
كما أن العروبة قدمت خاتم الزواج وقلادة الطفل وكنزة الصوف، قبل السلاح لدعم نضال الجزائر من اجل استعادة هويتها القومية.
* في المغرب تشتد حركة الاعتراض على الهوية العربية، وحتى الإسلامية، وتعلو الأصوات بدعوات بربرية متطرفة تطالب بالانفصال الكامل عن العرب، بل وطرد الاقلية العربية من المغرب ليصير الحكم الى البربر خالصاً من شبهة التعرب.
* في السودان تُستولد من قلب الدولة العربية الواحدة دول، وتُحوَّل أعراق الأقليات وإثنياتها الى قوميات، وتنقلب الأقلية التي اتّبعت المبشرين الاجانب الى »قومية« تصلح أساساً لدولة تقيم اودها بالنفط المكتشف حديثاً في الجنوب تحت الرعاية الأميركية مع تحريض للجهات الأصلية، شرق غرب جنوب شمال، في هذه البلاد الواسعة للتشطر دولاً لكل منها هويتها المنفصلة بحيث تحل الحروب بين »دول« او »محميات« شتى محل الحرب الأهلية التي تدور رحاها فوق أرض هذا البلد الغني بخيراته، والطيب شعبه الذي يراد الآن تقسيمه الى شعوب شتى.
وكان العرب قد قبلوا السودان بما هو عليه، ولم يحاولوا فرض العروبة على أقلياته، بل إن النخب العربية وقفت ضد محاولة النظام السوداني فرض الشريعة الاسلامية على السودانيين غير المسلمين… وحتى على المسلمين منهم إلا بارادتهم الحرة.
* في العراق، مرة أخرى، يتزايد الحديث العلني عن »ثلاثة« كيانات متمايزة، وربما متعارضة، أولها كردي قائم بقوة الأمر الواقع في الشمال، الذي يصر بعض وجهائه على تسميته »كردستان« ويرفضون إعادة رفع العلم العراقي فيه باعتباره علم الطغيان والمجازر.
وتُشَن حملة ضارية على عروبة العراق، عبر نسبة الجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين الى حزب البعث وشعاراته في الوحدة والحرية والاشتراكية، مع أن الحزب كان أولى ضحايا هذا الطاغية، والبعثيين كانوا اوائل الشهداء الذين تزايدت أعدادهم حتى صارت بالملايين، سواء في الحروب الغلط او في المذابح العنصرية او الطائفية، والتي كانت تقتل الحزب أول من تقتل.
* في السعودية تتوالى عمليات القتل الجماعي التي يرتكبها من أعماهم التعصب والحَوَل السياسي فأخذاهم الى خدمة المخابرات المركزية الأميركية في افغانستان، ثم الى التيه في كل أرض، ليرتدوا فيقاتلوا النظام الذي تحدروا من صلب انغلاقه المذهبي.
هذه المملكة التي طالما حظيت بالرعاية الأميركية، يجري الحديث علناً الآن عن احتمالات تقسيمها الى ثلاث دول: أُولاها شرقية حيث آبار النفط، والثانية حجازية تقوم على مكة المكرمة والمدينة المنورة ومواسم الحج والعمرة، والثالثة نجدية تُستبقى لآل سعود ومعهم شيوخ الوهابية، ولادة التطرف الاصولي الذي يُخرج المسلمين من الاسلام بعد إخراجه العرب من عروبتهم.
* في الكويت سقط آخر قومي عربي في مجلس الأمة في الانتخابات النيابية الأخيرة، وتزايد عدد العشائريين ووجهاء الاحياء ونواب الخدمات الآتين من خارج السياسة… فإذا كانت هذه حال الأمة فهؤلاء هم رموز الديموقراطية.
* في الإمارات تتزايد المخاوف من طغيان »الوافدين«، وهم بأكثريتهم الساحقة التي تقارب المليونين عدداً، من غير العرب، (هنود وبلوش وباكستانيين وايرانيين)، ويرفع كبار المسؤولين اصواتهم بالتحذير من سقوط الهوية العربية للبلاد وأهلها الأصليين، تحت ضغط صراع المصالح، خصوصاً ان وراء »الوافدين« دولاً قوية لا يمكن مقاومتها…
* أما في فلسطين حيث تتواصل المذبحة المنظمة التي تنفذها العنصرية الإسرائيلية بقيادة السفاح أرييل شارون، فإن هذا الشعب العظيم المهدَّد في وجوده فوق أرضه، بل في استمراره على قيد الحياة، لا يجد ملجأ له إلا عروبته، مع أن »اخوانه« العرب يتزاحمون في الخروج منها وعليها.
ومع فلسطين المناضلة، وعلى خطى انتفاضتها الدائمة، كانت تجربة لبنان المقاوم، التي انتصرت بالعروبة ومعها الاسلام، وليس بإسلام يجافي العروبة او ينقضها.
* * *
لا بد من اعادة الاعتبار الى العروبة بتبرئتها من خطايا الذين حكموا باسمها.
فالعروبة ليست نظام حكم. انها الدعوة لا الدولة، انها الهوية لا الحاكم.
ولا بد من المراجعة العقلانية الهادئة التي لا تهرب من المحاسبة المتروية المدققة، الى الأحكام المطلقة والمدمرة.
نعم، لم تكن العروبة نظرية علمية متكاملة معاصرة وملبية لاحتياجات بناء الدول في مجتمعات امية ومتخلفة اقتصاديا تكاد الخرافة فيها تكون أقوى من الدين، وتكاد الطقوس تكون أقوى من الإيمان الذي يأخذ الى الجهاد ضد الغلط في الحاكم الطاغية كما ضد المحتل الأجنبي.
ولقد اجتهد المجتهدون، وكتب المفكرون، وأنشأ القادة حركات سياسية وجمعيات واحزاباً حملت راية العروبة، واقتحمت بها إيوان السلطة فنجحت قليلاً وفشلت كثيرا… وبديهي ان تتحمل مسؤولية فشلها.
لقد أساء الى العروبة بعض دعاتها خصوصاً وقد ارتد عنها بعض متعجّلي الوصول الى تحقيق الحلم، او الذين افترضوا فيها سحراً قادراً على ازالة اسرائيل بغير قتال.. وربما ألحقت بها الأذى أنظمةٌ حملت شعارتها… لكن الفكرة هي الحقيقة الباقية الوحيدة.
كل ما علق بها ذهب مع أصحابه الذين حاولوا مخلصين فأخطأوا، او صادروها لأغراضهم فشوهوها وتسببوا في ابتعاد الناس عنها وكأنها الطريق الى الماضي او الى الاستحالة.
لكن العروبة، الفكرة، الانتماء، الهوية، هي قاعدة التلاقي، وإنكارها نقطة الافتراق بين أهلها.
إن أخطأ التنظيم لا نخرج من هويتنا بالنكاية، وإن أخطأ النظام لا نُدِن أنفسنا به فنحكم على هويتنا بالموت، وهكذا نكمل إنجاز ما عجز عن إنجازه.
* * *
إن العروبة بحاجة الى صياغة سياسية جديدة معاصرة وواعية لواقع العرب كما لظروف العالم والتحولات الخطيرة التي غيرته وستغيره أكثر. هذه مهمة ملحّة.
لكن الخروج من العروبة او عليها ليس حلاً او ضمانا للنجاة.
إن كل دولة حاولت الخروج عليها خسرت وحدتها الداخلية، بداية، قبل ان تخسر قيمتها العربية والدولية، وهذه الحال تنطبق على جميع الدول الكبيرة منها مثل مصر، والصغيرة مثل الكويت.
ربما لهذا، يبدو الفلسطيني في قلب حصار القتل الصهيوني حتى الإبادة الأكثر عروبة، لأن عروبته ضمان قضيته وسلاح تحرره.
إن العروبة بحاجة الى صياغة سياسية جديدة تُنهي هذا الالتباس المزدوج والقاتل في الحالتين:
فمرة توصف العروبة وكأنها الواجهة المموهة للإسلام السياسي؛
ومرة اخرى توضع العروبة في وجه الإسلام خصوصاً والدين عموماً.
وثمة من يصور للعربي المسيحي ان العروبة هي الإسلام بالفرض والقهر، وللعربي المسلم أن العروبة هي الارتداد عن الدين الحنيف والالتحاق بالغرب الكافر.
ومرة توضع العروبة مقابل الوطنية، فيُصوَّر من قال بعروبته وكأنه قد خرج على وطنيته… ولطالما اعتُبر »العربي« في لبنان مشروع خائن، ومنحازاً للخارج الغريب ضد الاستقلال والعنفوان والكيان الخالد.
كذلك، فليس أسهل من وضع العروبة مقابل التحرر والديموقراطية: فهي الطغيان والديكتاتورية وحكم العسكر، بشهادة الواقع القائم وليس المستقبل المرتجى.
* * *
لقد اختلف الزمان. ومع ان هوية الغرض وناسها لا تتبدل بمرور الأيام، فإن التطورات السياسية والاجتماعية وضرورات التقدم الاجتماعي تفرض إعادة صياغة المنظومة الفكرية لحياة الناس في بلاد معينة، بما يتناسب مع طبيعة التحديات التي تواجه مجتمعاتهم دولهم،
وبديهي أن العروبة تواجه اليوم تحديات هي الأخطر منذ انطلاق دعوتها كبشارة للوعي بالذات والانطلاق على طريق بناء الغد الموعود لهذه الشعوب المقهورة بالاحتلال الاجنبي والقمع الداخلي والفقر والتخلف منذ دهور.
وهذه مهمة المستقبل للقادر على حملها وإنجازها.

نص محاضرة أُلقيت في النادي الثقافي العربي،
على هامش معرض بيروت العربي الدولي للكتاب

Exit mobile version