طلال سلمان

قراءة في صراع مرشحين »احلاهما مر«

لا صوت يعلو، أو يجوز أن يعلو، على صوت الناخب المتني الذي سيقرر، غداً، المصائر والمقادير!
اليوم هو يوم الخيار بين مرشحين أحلاهما »مر«، وغداً خمر وسكر وسمر حتى مطلع الفجر! وبعد غد، فقط، يمكن الالتفات الى التفاصيل الكونية كمثل اجتماع روما الذي شهد التحاق روسيا، ولو بدور الوصيف، بالحلف الأطلسي أميركي الخطة والراية والدور، أو الى التطورات في المنطقة العربية بدءاً بمصير فلسطين، شعباً وأرضاً وسلطة وحلماً بدولة، وانتهاء بموعد الضربة القاضية على العراق لإنقاذه من صدام حسين!
فأما كأس العالم فيمكن استدراك ما قد يفوتك من مبارياته، مسجلة، خصوصاً وان افتتاحيته لا تبشر بالخير إذ انتصر حفاة العالم الثالث الآتين من سنغال أفريقيا على ورثة الثورة الفرنسية ومبادئها العظيمة، ولو مستوردين أو متحدرين من أفريقيا ذاتها، لا فرق بين شمالها والقلب والجنوب إلا بدرجة السواد في اللون.
وأما أزمات الحكم المتلاحقة كمسلسل رديء يفتقد الطرافة، فلسوف لن يفوتك منها شيء، بل لعلها ستزداد تعقيداً بعد المعركة بين »المرّين« في عرين الرئاسة، خصوصاً وأن نتائج »الحرب على الديموقراطية« لن تخفف من حدة الأزمة الاقتصادية ولا من حجم الديون التي لا تنفك عن التوالد (وبالمليارات) وعن خدمة الديون المتعاظمة مع كل مشرق شمس، وعن الهدر وعن حكايات النهب المنظم للمال العام… كل ذلك يستطيع أن ينتظر يوماً أو يومين حتى يطمئن شعب لبنان العنيد الى مستقبله مع الديموقراطية ومع الحرية ومع القرار الوطني المستقل عبر معركة المصير في قلب لبنان: متنه الشمالي الجميل.
أما بعد…
لقد شكل ظهور الدكتور ألبير مخيبر، أواسط الخمسينيات، في منطقة المتن الشمالي ظاهرة شعبية مهمة، سرعان ما نجحت في كسر الدائرة المقفلة للتمثيل السياسي بعائلات محددة ومحدودة كانت أقوى من الأحزاب العقائدية في صلابة عصبياتها.
وها هو مقعد الطبيب ذي السمعة العطرة، والذي عاش بموقفه المبدئي كما كان يراه خارج السياسة، وظل معظم سني نيابته الطويلة خارج النادي السياسي، والذي أسهمت »سماعته« في بناء شعبيته، ثم رسختها صلابته في الالتزام بما كان يعتبر أنه الحق، بمعزل حتى عن رأي »جمهوره«… ها هو ذلك المقعد يعود الى الدائرة المقفلة ذاتها، وها هم أطراف الدائرة هذه يعتبرون أي رأي آخر (وأي ترشيح آخر ولو من آل مخيبر) حرباً على الديموقراطية والحريات العامة وشرعة حقوق الإنسان.
الخيار محدد: بين »المر« و»الأمرّ«، والباقي »خس«!
الأدهى أن المناخ السياسي في البلاد، عموما، قد ضربته لوثة الحرب الأهلية، فتراجع من مستوى الصراع بين العقائد والتيارات والتنظيمات الحزبية، الى مستوى النكايات العائلية وتصفية الحسابات الأخوية، علماً بأن هذه المنطقة كانت ولادة أو حاضنة لبعض التنظيمات العقائدية أبرزها الحزب السوري القومي، في حين ان الحزب الشيوعي قد نما فيها بأسرع ممّا نما في غيرها، أما حين ظهر الحزب التقدمي الاشتراكي فكان فرعه في بكفيا مثلاً (واستطرادا في المتن) أقوى نفوذاً وأكثر عدداً منه في الشوف، وحتى الأمس القريب كان لحزب البعث العربي الاشتراكي وجود ملحوظ في هذه المنطقة المتميزة بأعداد المتعلمين من أبنائها وذوي الثقافة السياسية، وربما لهذا ظلت »الكتلة الوطنية« قوة مؤثرة بوصفها تستهوي »النخب« في حين توجه حزب الكتائب الى »الجمهور« ذي الثقافة السياسية المحدودة ولم يصبح قوة سياسية ذات شأن إلا عندما تبنته السلطة ورعته وسلمته مفاتيح المنافع والمواقع فيها.
ذهبت تلك الايام التي كان الصراع فيها محتدما بين »اليسار« و»اليمين«، أو بين »الماركسية« و»العروبة« أو »القومية السورية« و»القومية العربية«، أو بين »الدستوريين« و»الكتلويين«، وارتدت المنافسات الى بيئة ما قبل العقائد، وربما الى ما قبل »الدولة« ومؤسساتها التي كانت وما زالت »قيد التأسيس«.
التهمت الحرب الاحزاب، بعقائدها المختلفة، فبعثرت راياتها وفرقت جماهيرها بين متاريس الطوائف، واستعرت نيران »العنصرية« أو »الكيانية« في مواجهة »الفلسطيني« ثم »السوري«، مما انعكس على العلاقات بين اللبنانيين أنفسهم، لأن أنجح الأسلحة في الحرب الاهلية كان وما زال هو هو: »الطائفية«، واحيانا »المذهبية«.
هذا لا يعني أن الاحزاب العقائدية قد اندثرت تماما، ولكن الواقع يثبت أن وجودها بات رمزيا قد يفيد في تمويه الواقع باستخدام الشعار الذي بقي له شيء من نداوة الذكريات، كما يمكن استخدام البطاقات الانتخابية للمحازبين، على تناقصهم، في دور »الصوت المرجح«، (وهو قد استخدم فعلا في المعركتين الانتخابيتين 1996، 2000).
على أن الاخطر أن الاحزاب وضعت نفسها أو وضعتها تطلعاتها الى السلطة في موقع الاداة المساعدة على طمس هوية المتصارعين: ينجح مرشحها، إن نجح بأصوات من لا تجمعه بهم رابطة سياسية، وتعمل أحيانا لفوز من يفترض أنها على خصومة »فكرية« معه.
وها هو المشهد اليوم فضاح الدلالات: تبعثرت أصوات الحزبيين في معركة لا يمكن إخفاء طابعها العائلي تدور بين الأخ الشقيق واخيه، بين العم وابنة اخيه (وابن اخيه)، بين اولاد العم (في الطرف الآخر)، وان حاول الكل وفي تواطؤ معلن ان يصوروها وكأنها الحرب الاخيرة بين معارضة غير مكتملة النمو وبين موالاة للذات لا يمكن اخفاء ارتباطها بأعلى مواقع السلطة.
***
هي معركة تكاد تسقط تحت شعاراتها الثقيلة التي حُمّلت بها، برغم انها تكاد تكون معروفة النتائج سلفا، ليس فقط لأن »كسر رئيس الدولة« ممنوع، بل لأنها في نظر »الناخب« أقل من ذلك بكثير، ومن الصعب »مط« الخلافات العائلية والنكايات وتصفية الحسابات القبلية بحيث تصير صراعا على السيادة والاستقلال والقرار الحر!
أما أن السلطة متهمة سلفا فهذا أمر »طبيعي«، وأما أنها ستتدخل فهذا أيضا أمر معروف ومألوف لا هو بالجديد المستغرب، ولا بالطارئ المستنكر،
والديموقراطية التي تقتلها العائلية، عند ولادتها، وتغتالها الطائفية اذا ما خرجت الى »الشارع«، لن يقدر لها أن تقرر بين مرشحين »أحلاهما مر«.
وغدا الأحد، ومع اعلان النتائج، ستعلن رسميا وفاة أحد آخر الديموقراطيين في لبنان، بمعزل عن الصح والغلط في موقفه السياسي: الرجل الذي كان دائما خارج سربه، والذي كان يفوز »بفضل« الخلافات العائلية، كما بفضل »سماعته« ونجدته للمرضى والمحتاجين من »الأهالي«، الدكتور ألبير مخيبر.

Exit mobile version