طلال سلمان

قراءة في تهديدات اولبرايت

المفارقات أكثر من أن تحصى في هذا الموقف الأميركي التأديبي تجاه لبنان!
بداية، يجدر التذكير بأن لبنان ليس قلعة شيوعية عاصية، ولا يحكمه »أسامة بن لادن« والخريجون »الأفغان« الذين تدربوا على أيدي المخابرات المركزية الأميركية ثم تخلت عنهم بعد انتفاء الحاجة إليهم بسقوط النظام الشيوعي في أفغانستان فانقلبوا عليها يقاتلونها..
ثم، يجدر التذكير أيضا بأن لبنان يعتمد النظام الاقتصادي الحر (إلى حد الفوضى) ويقدس شعار »دعمه يعمل، دعه يمر«، بل لعله قد أضاف إليه الكثير من المفردات و»القيم« النابعة من صميم السرية المصرفية واقتصاد السوق، و»من حضر السوق باع واشترى«..
بعد هذا وذاك فالجيش الذي كان يحتل الأرض اللبنانية والذي قاتلته المقاومة الباسلة في لبنان حتى الجلاء، كان إسرائيلياً ولم يكن أميركياً، وكان الموقف الرسمي المعلن للإدارة الأميركية مطالبة متكررة بضرورة انسحابه تنفيذا للقرار 425.
ثم ان القرار بالانسحاب قد اتخذه، ولو مضطرا، رئيس الحكومة الإسرائيلية (المدلل أميركيا) إيهود باراك، وسط ترحيب استثنائي شمل الكرة الأرضية جميعا، باعتباره قرارا يريح إسرائيل ويوقف انهيار معنوياتها والتشوه الذي أصاب صورتها، عالميا.
… ولقد تم الانسحاب في ظل انضباط مثالي فاق أي توقع، أبدته المقاومة بمجاهديها البواسل، والتزم به سائر الأطراف الحزبية التي شاركت في التصدي للاحتلال.
لم تقع فتنة، ولم تفد الكميات الهائلة من السلاح الإسرائيلي المتروك عمداً في إشعال حريق طائفي… وبرغم الزحف المقدس للبنانيين في اتجاه أرضهم المستعادة بدمائهم فلم تصدم سيارة أخرى، ولم تنقلب حافلة بركابها، ولم يختلف سائقان على أفضلية المرور (كما يحصل مرات في اليوم الواحد في أي شارع ببيروت).
الأخطر والأهم أن مقاتلي »حزب الله« والأحزاب الأخرى، والمسلحين الذين أنبتتهم الأرض، والمتعددي الانتماءات والأغراض، قد التزموا التزاما مشرفاً ولافتاً بموجبات الانضباط وحرصوا على عدم إفساد الفرحة بالتحرير، ولم يتصرفوا بدافع الثأر أو الانتقام أو التشفي فهزوا بنادقهم في وجه جنود الاحتلال من دون أن يطلقوا عليهم النار، وهم على بُعد خطوات منهم. حرصوا على شرف جهادهم، وحافظوا على وهج بطولتهم، فلم يعبثوا ولم يتصرفوا بخفة فيتصيدوا هذا الجندي الإسرائيلي أو ذاك المستوطن المستقدَم من آخر الدنيا، ولا هم طاردوا برصاصهم المتعاونين والمتعاملين مع الاحتلال، بل تركوا لإسرائيل أن تهينهم أكثر، وللقضاء اللبناني أن يعاقبهم على فعلتهم.
السؤال: ماذا ازعج واشنطن في هذا كله؟ وماذا اثار غضب السيدة اولبرايت؟! ولماذا هذا الالحاح على لبنان بأن يتولى جيشه مهمة »حرس الحدود« لاسرائيل، وكأنه بديل من ميليشيا لحد، من قبل ان يتم التحقق من الجلاء الكامل، ومن قبل ان يتم تعزيز القوات الدولية تمهيدا لانتشارها وفق منطوق القرار 425؟!
ثم لماذا هذه النبرة التهديدية، وهذه الاستهانة بالكرامة الوطنية، وهذا »التقريع« لرئيس الجمهورية، وهذه »الشماتة« برحيل القائد العظيم حافظ الأسد، وكل ذلك قد تجلى في المحادثة الهاتفية التي استطالت بين منتصف الليل والفجر، حتى اضطر الرئيس لحود الى إنهائها، بأدب، مع اطلالة الصباح الاولى؟!
لم يكن لبنان يحتل ارضاً اميركية، ولا ارضاً »اسرائيلية« (؟!) ويرفض تنفيذ القرارات الدولية ويخرج على ارادة المجتمع الدولي، بل هو اضطر الى استخدام دماء ابنائه سلاحاً لاستعادة حقه في ارضه، بعدما وقفت هذه الارادة عاجزة امام التعنت الاسرائيلي المغطى دائماً بالتأييد الاميركي المفتوح؟!
الولايات المتحدة الاميركية، امبراطور الكون، تهدد احدى اصغر دول الارض، لبنان، وتباشر تأديبه بحرمانه »حفنة من الدولارات« لا تسمن ولا تغني من جوع، و»تأمر« فرنسا بعدم مساعدته على عقد مؤتمر للدول المانحة من اجل تعويضه بعض الخسائر الفادحة الناجمة عن الاحتلال، وتمكينه من اعادة اعمار المناطق التي احرقتها النار الاسرائيلية (بما يحصن الحدود واهلها، على الجانبين؟!).
انه شيء من مسرح العبث او اللامعقول.
ومؤكد ان لبنان لن يقبل هذه الدعوة الى المنازلة مع »اعظم قوة على وجه الارض«، كما قالت اولبرايت، فهو يعرف حجمه وقدراته ولن يأخذه الغرور او الطيش الى حرب لا قبل له بها ولا هو يحتاجها ولا هو يريدها.
على ان هذا البلد الصغير، الخارج منتصراً من مواجهة مع اعتى قوة في هذه المنطقة، لن يضيّع نصره، ولن يفرّط بانجازه، ولن يزحف راكعاً لتلبية شروط باراك التي عجز عن فرضها بجيشه الهائل القدرات (وتفوقه العسكري والاقتصادي والعلمي الخ) غير المحدود.
لقد صمد لبنان حتى انتصر بدمه على السيف الاسرائيلي،
وهو سيصمد اليوم حتى لا تفرض عليه واشنطن ما عجزت عن اجباره عليه تل ابيب.
والصمود، مرة اخرى، شرط لحماية الانتصار، أما التراجع بالخوف او تحت ضغط الارهاب فيقلب النصر الى هزيمة ستكون الفتنة احدى اشد ادواتها فتكاً.
واولبرايت على وشك مغادرة مكتبها المرهوب.. اما لبنان فباقٍ، بدولته وشعبه وروحه القتالية التي انجبت مقاومته الباسلة، فحررت ارضه وحمت وجوده.

Exit mobile version