طلال سلمان

قراءة غير مفرحة في سنة جديدة

غداً نودّع سنة أخرى من الهزائم الثقيلة، على المستوى العربي العام، لنستقبل سنة جديدة تعدنا بهزائم أثقل، وربما بنهاية مفجعة لأحلام وردية وآمال عراض، طالما شحنت الأجيال السابقة بالعزيمة والقدرة على المواجهة وتوكيد الجدارة بمستقبل أفضل..
ولعل الخاتمة الدموية للسنة الراحلة باغتيال جار الله عمر، في صنعاء، وهو النموذج الراقي للمناضل العربي الوحدوي، على يد سلفي متعصب يكره الشمس والأطفال والحرية تضيف إلى أسباب عجزنا عن مواجهة الاحتلال الأجنبي قصورنا الفاضح عن التوحد بل عن التلاقي والتحاور لحل خلافاتنا الفكرية والسياسية حتى وبلادنا جميعاً على »لوائح الإعدام«.
فأما لبنان فالحكم فيه في إجازة، والحكومة ليست ميتة (تماماً) فتُنعى، كما أن المعارضة ليست حية (بالفعل) فتُرجى، والقضاء في غيبوبة، والاقتصاد قد تحوّل إلى مجموعة معقدة من العمليات المصرفية والمضاربة بالفوائد على الضرائب والرسوم، يحاولون إنعاشه بمزيد من الديون ليتمكن من »خدمة« الديون السابقة وتأمين رواتب الموظفين، والموازنة »توازن« بين »الثوابت« يلغي المؤسسات تماماً، ووعود الربيع الجديدة تنطلق من التعهد بالإسراع في بيع الأملاك العامة لمكتنزي الأموال الخاصة أو لشركات أجنبية، وبتسهيلات استثنائية لتوكيد النزاهة والشفافية والحرص الشديد على المال العام.
لكن لبنان أمره هيّن إذا ما قيس بمنظار ما يتهدد الأرض العربية، شعوباً وكيانات سياسية، وموارد اقتصادية، من مخاطر جدية تطاول الهوية القومية بل والحق في الوجود، مجرد الوجود.
فهذه فلسطين »تذوب« مدينة مدينة وقرية قرية ومخيماً مخيماً، بالمستعمرات الجديدة والطرق الالتفافية والدواعي الأمنية، بينما »خريطة الطريق« الأميركية الى »الدولة الفلسطينية« العتيدة تتوه بين تل أبيب وواشنطن، حتى إذا وافق على ما تبقى منها السفاح أرييل شارون، أخيراً، أرجئ الإعلان عنها إلى ما بعد تدمير العراق… وثمة من يقول إنها خريطة لطريق الفلسطينيين إلى خارج أرضهم، وربما إلى كيانات جديدة سيقيمها الاحتلال الأميركي في أرض الرافدين!
وهذا العراق ينخره المفتشون نخراً، يُسقطون حصانة الدولة، بمؤسساتها كافة، وحصانة الجامعات ودور العلم، و»يسترهنون« العلماء وأصحاب العقول، باعتبارهم المولد الأساسي »للإرهاب«.
إنه قرار أميركي إسرائيلي بإعدام الغد العربي… فليس سلاطين الهزيمة من قتلة آبائهم أو أعمامهم أو أصهارهم، وسجاني شعوبهم بالبدع والهرطقة الدينية أو بالدبابات والمخبرين، أو بالقواعد الأجنبية، هم صنّاع التقدم، أو البوابة إلى العصر، بل هي العقول والكفاءات العلمية ومراكز الأبحاث والمعاهد المتخصصة والجامعات المفتوحة حقاً على النور، إذا ما قدّر لها أن توظف علمها في خدمة طموحات شعبها، وأولها طموحه إلى حياة كريمة فوق أرضه.
إنها سنة قاسية، هذه التي تطل علينا: فلم يحدث أن كان الوطن العربي بمجمله محتلاً، كما هو الآن، لا في زمن الصليبيين ولا في زمن العثمانيين، ولا في زمن الاستعمار القديم. ولم يحدث أن كانت كل موارده مصادرة أو منهوبة أو معطلة كما هي الآن، فحتى الدول الأعظم غنى بثرواتها الطبيعية (السعودية، الجزائر، العراق الخ) تئن تحت وطأة الديون وضغوط صندوق النقد الدولي، وفواتير السلاح من دبابات وطائرات لن تنفع إلا منتجيها… المحتلين!
إن الاحتلال الأجنبي (الأميركي الإسرائيلي) يشمل الأرض والبحار والفضاء والإرادة (ممثلة بالحكام)… وبالتالي فهو يعطل الجيوش التي كلّف تسليحها ثروات خرافية، ويحولها إما إلى تشكيلات فولكلورية للاستعراض وإما إلى قوات حماية لمؤخرة الاحتلال، تكلف بالمهمات القذرة (إرهاب الشعب وتأديبه لإخضاعه للمحتل، إذا ما فكر بالعصيان)..
إن الاحتلال الإسرائيلي يوسع دائرة اغتيالاته (بالحوامات أو بالدبابات أو بالمدافع أو بالعبوات الناسفة) لتشمل الجيل الثاني من المناضلين، وحتى الجيل الثالث من الفتية والأطفال… ثم أنه يغيّر معالم الأرض، ويبدل في جغرافية المدن والقرى بحيث ستصبح فلسطين غداً (أو ما تبقى منها) مجرد »برازخ« يسكنها أشتات من شعبها القديم داخل طوق من »مدن« المستعمرين الإسرائيليين الأقوياء بالسلاح وبالقدرات المادية كما بالدعم الدولي المفتوح.
وقبل أن يتم اغتيال العراق، ككيان سياسي، وكتمهيد لا بد منه، فإن كرامة الدولة تهدر، ومعنويات شعبها وجيشها تمتهن، فعلى مدار الساعة يحتل شاشات الفضائيات نخب من الضباط والعلماء والمديرين يؤكدون »براءة« مصانعهم وقواعدهم العسكرية ومنشآتهم الحيوية من أن تكون »مصدراً للخطر«…
وواضح أن القرار الأميركي يستهدف، في جملة ما يستهدف، مصادرة العلماء والخبراء وأصحاب العقول، ممن أتيح لهم ذات يوم أن يباشروا ما يشبه الثورة الصناعية في العراق.. وعلى هذا فالقرار بتدمير العراق يتخذ من »تهجير« العلماء أو »مصادرتهم« عنواناً، حتى تتعذر إعادة البناء، كما جرى بعد غزو الكويت.. أو على امتداد جيلين كاملين!
في هذا الوقت بالذات يتطوّع التخلف العقلي والتعصب السلفي ليقدم أعظم الخدمات للاحتلال: يلجأ إلى الإرهاب بوهم تدمير قوى الطغيان في الخارج (كما في تفجيرات 11 أيلول)، وإلى اغتيال المناضلين والمفكرين والعلماء في الداخل، كما جرى في مصر (نجيب محفوظ ومكرم محمد أحمد وقبلهما فرج فودة)، وفي لبنان من قبل (حسين مروة وحسن حمدان)، وفي اليمن اليوم: جار الله عمر الذي استعصى على الغواية بالمنصب أو بالمال، والذي كانت لديه شجاعة الاعتراف بالخطأ، والذي ساهم جدياً في فضح النفاق الذي يحل القائد محل القيادة والقيادة محل الحزب والحزب محل الشعب فإذا الحاكم الفرد طاغية، وإذا التعصب السلفي حليف موضوعي ولو من موقع الخصومة المشتركة للطامحين إلى التغيير ودخول العصر.
على أن الأمل يظل معقوداً على الحملة الأميركية من أجل الديموقراطية في الوطن العربي، بميزانيتها الهائلة (29 مليون دولار)، والتي ستنير لنا الطريق إلى حقوق الإنسان، بينما الإنسان نفسه ملغى ومسحوق عقلاً وفكراً ووطناً وتاريخاً ومستقبلاً.
إنها سنة قاسية، هذه المطلة علينا عبر النيران والدماء ومشاريع الإبادة والتقسيم.
… ولم تنفع مقررات قمة بيروت في منع كوارث العام المنقضي، برغم »المبادرة العربية« التي عرضت على الأميركيين والإسرائيليين سلام الضعفاء.
وعسى أن تجد القمة المقبلة في البحرين، بعد ثلاثة شهور، ما تساوم عليه في العراق كما في فلسطين وربما في أقطار عربية أخرى.
ترانا سنترحم على السنة المنصرمة، وسنبكي عليها؟!

Exit mobile version