طلال سلمان

قراءة سياسية قاء بوش حريري بعيدا عن باريس 2 وشفاعة شيراك

لا أحد يريد إفساد »العيد« الباريسي الذي كادت »بهجة« النجاح في تأمين نصابه على أعلى مستوى متخيّل، تنسينا مبررات إلحاحنا على عقده ومراهناتنا عليه باعتباره المدخل إلى الإنقاذ المرتجى، إن لم يكن هو بذاته »الإنقاذ«.
وحقيقة الأمر بلغة مبسطة إلى حد السذاجة: اننا نسعى الى مزيد من الديون والقروض (وربما الى ودائع من بعض الدول الشقيقة) بفوائد أقل مما ندفع الآن فعلاً، لكي نكسر الحجم المخيف لفوائد الديون السابقة، فنخفف من عجز الموازنة الذي كاد يوصل الدولة الى شفا الإفلاس.
مع ذلك فقد استقبله الكل باعتباره مدخلاً الى حل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، إذا ما التزمت الحكومة فعلاً بالإجراءات التي تعهدت بها، إن في مجال ضبط النفقات ووقف الهدر وضرب الفساد المستشري في الإدارات، أو في مجال خصخصة أو تسنيد بعض مؤسسات الإنتاج في القطاع العام كالكهرباء والهاتف الثابت، فضلاً عن الهاتف المحمول، والريجي… الخ.
لكن المبالغة في التهليل للنتائج المتوقعة أو المرجوة من »باريس 2« لا يمكنها مهما نثرت من أرقام، غالباً ما تنقصها الدقة أن تخفي طبيعته أو توصيفه الفعلي، وهو أنه أقرب ما يكون الى »صندوق الدين« أيام الحكم الخديوي في مصر، وبالتالي فهو يكاد ينشئ ما يشبه »الوصاية الدولية« على اقتصاد لبنان، أو على لبنان، انطلاقاً من اقتصاده… فليست الدول الأجنبية والمؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وحتى الدول والصناديق العربية، جمعيات خيرية توزع التبرعات على المحتاجين شمالاً ويميناً وتغيث الملهوف، ولا هي »بابا نويل« يهبط مع الليل عبر المدخنة ليترك الهدايا للأطفال فتصنع لهم العيد مع الصباح.
* * *
والقراءة السياسية لهذا المؤتمر ليست أكثر إسعاداً من القراءة الاقتصادية، خصوصا بعد »الطارئ« الجديد والمثير ممثَّلاً بالموعد الاستثنائي الذي حدده الرئيس الأميركي لرئيس الحكومة رفيق الحريري اليوم (الاثنين)، والذي أُدرج تحت عنوان »باريس 2«، مع ان هذا اللقاء (وهو الثاني خلال سبعة شهور، هذا العام، والثالث خلال أقل من عشرين شهراً بين الرجلين) أوسع مدى بكثير من أن يستوعبه الجهد المبذول لتفريج الأزمة الاقتصادية في لبنان.
ففي الوقائع أن الرئيس الحريري كان في واشنطن قبل أسبوعين، والتقى فيها ومن خارج البرنامج الرسمي المعلن اثنين من أبرز أركان الإدارة الأميركية هما وزير الخارجية كولن باول ومستشارة الأمن القومي في البيت الأبيض كونداليزا رايس، إضافة الى اجتماعاته بمديري البنك الدولي وصندوق النقد الدولي… وبالتالي فإن »الرسالة« إن كان ثمة رسالة متصلة بباريس 2 قد وصلت..
وفي الوقائع فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد تمنى على صديقه الرئيس الأميركي جورج بوش، وبإلحاح لافت، أن »يبارك« باريس 2، وأن تشارك الولايات المتحدة فيه على أعلى مستوى ممكن، وقد تبلّغ (وبلّغ فعلاً) أن واشنطن تجاوزت تحفظاتها، وأنها تؤيد انعقاد المؤتمر، وتشجع »أصدقاءها« على المشاركة فيه… ثم كانت البشرى بأنها ستوفد ممثلاً عالي المستوى (وتمت تسمية نائب مساعد وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد) ليؤكد الدعم الأميركي للجهد الفرنسي من أجل »إنقاذ« لبنان من محنته الاقتصادية..
إذن، وبالاستنتاج المبسط يمكن الجزم بأن اللقاء الاستثنائي للرئيس الحريري اليوم، مع الرئيس الأميركي لا يمكن أن يكون موضوعه الأول أو خاصة الوحيد »باريس 2«، فقرار المشاركة فيه قد اتخذ فعلاً، وأبلغ رسمياً الى الحاضنة الفرنسية، ولم ينتظر أن يسمع بوش، مباشرة، مطالعة لبنان بلسان الحريري لكي يقرر، خصوصا ان الولايات المتحدة الأميركية »دولة« ثم إنها »عظمى«، وبالتالي فإن القرار فيها لا يتخذه شخص واحد، ولا يمكن تبديله وفقاً لفصاحة صاحب الحاجة…
وفي أي حال، فإن دالة الرئيس الفرنسي تظل أقوى من دالة رئيس حكومة بلد صغير كلبنان على »امبراطور الكون«، وما لم يعطه لشيراك لن يعطيه للحريري، فضلاً عن ان مثل هذه الدولة العظمى لا تغيّر في قراراتها فجأة، وفي اللحظة الأخيرة، ونتيجة لمؤثرات شخصية.
* * *
على هذا، فإن اللقاء مع بوش سياسي بامتياز، وإن كان المدخل إليه اقتصادياً..
فإذا كان مثل هذا الاستنتاج المنطقي صحيحاً، وهو بالتأكيد صحيح، بات السؤال مشروعاً عن جدول أعماله الذي لا يمكن أن يكون لبنانيا بحتا، مع الأخذ بالاعتبار التوقيت، ومجريات الأحداث في هذه المنطقة، والدور الأميركي فيها.
هنا لا بد من ملاحظة أن مثل هذا اللقاء سيكون الأول للرئيس الأميركي مع رئيس حكومة عربي منذ إطلاق نذر الحرب الأميركية الظالمة على العراق.
ولا بد، أيضاً، من الإشارة الى ان انضمام الرئيس الأميركي الى المشجعين على إنجاح باريس 2 قد لا يكون »شهادة حسن سلوك«، أو »لفتة« تعبّر عن حسن النوايا« تجاه لبنان وسائر العرب.
فمن يتعامل مع العرب بلغة الحرب المدمرة للعراق،
.. ومن يشجع السفاح الإسرائيلي أرييل شارون على مواصلة مذبحته المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، ويرفض أن يعترف له بحقه في الحياة فوق أرضه، ويدِن مقاومته البطولية حتى وهي تواجه جيش الاحتلال مباشرة، بعيداً عن »المدنيين« (كما حصل مثلاً في الخليل)،
.. ومن يمارس حملة الابتزاز المفتوح، بل الإذلال المتعمد بالضغط السياسي (كما على السعودية

وأقطار الخليج) أو بالضغط بالمساعدات الاقتصادية (كما على مصر) أو بتهديد وحدة البلاد عن طريق دعم الانفصاليين (كما في السودان)..
مثل هذا الامبراطور للتجبر الذي مارس ويمارس سياسة امتهان للعرب بمجموعهم، لا فرق عنده بين »حليف« و»صديق« و»محايد«، لا يمكن أن يُنظر اليه وكأنه مع لبنان هو غيره مع سائر العرب، ومن المضحك المبكي أن نراه في صورة »المنقذ« معنا، بينما هو الطاغية، بطل الحروب، بل والتآمر المكشوف على سائر العرب من حولنا.
***
مع ذلك، وكالعادة، فليس أمامنا غير أن نبتهل الى الله العلي القدير بأن يمكّن حكمنا الموحد، الآن، من النجاح في استدانة المزيد من المليارات لإطفاء فائدة المليارات السابقة، لعل وعسى نصل ذات يوم الى استنقاذ رغيف الخبز من براثن المرابين الذين لجأنا إليهم لنجدتنا في محنتنا.
ولا شك في أن أي مواطن قد يبتهج بأن يكتشف أن لبلده الصغير مثل هذه المكانة الدولية العالية، بحيث تتزاحم كبريات الدول والقوى الاقتصادية الدولية لتقديم النجدة إليه والتخفيف من أزمته الاقتصادية الضاغطة عليه سياسيا.
على أن المراقب النزيه لا بد من أن يتوقف عند مجموعة من المفارقات اللافتة، أبرزها التالية:
الأولى يعرف العالم أن ليس في لبنان نفط أو ثروات معدنية مخبوءة يمكن استخراجها غدا بحيث ينتشل عائدها الأسطوري اقتصاده من الوهدة العميقة التي غرق أو أُغرق فيها منذ سنوات طويلة، والتي تتفاقم الأمراض الناجمة عنها يوما بعد يوم.
الثانية لا يصدق أي خبير اقتصادي جدي في لبنان، أو حتى أي مسؤول رسمي يشغل موقعا مؤثرا، كالوزراء والنواب، ما ينشر ويذاع عن الأرقام الفلكية لمليارات الدولارات التي ستعود علينا بها عملية الخصخصة، خصوصا ان المؤسسات المرشحة للتخصيص (كالكهرباء) أوضاعها بائسة، وعجزها خطير يستدعي دعما مفتوحا تدفعه خزينة الدولة مرغمة… وسيكون لافتا، وربما مريبا، أن يأتي من »يشتريها« أو يشتري بعضها، إلا إذا ضمن قدرا من الربح »المعقول«.
هذا يضعنا أمام أحد احتمالين: إما أن ما دفعناه من المليارات على الكهرباء، مثلا، قد ضاع هباء فزادت خسائرها (من دون أن يعم نورها!) ولم يتحسن سعر بيعها… وإما أنها بحالة جيدة تغري المشتري أو المشارك ولكنها تتعرض لعملية تخريب مقصودة تستهدف إقناعنا بضرورة »بيعها بالرخيص« لأصحاب الحظوة حتى يتوقف نزف الخزينة، في حين أن المشتري سعيد الحظ سينعم غدا بأرباحها المحجوبة عنا اليوم.
المفارقة الثالثة وهي الأهم بينما تطارد الولايات المتحدة الأميركية لبنان بالاتهامات التي تمتد من تبييض الأموال وزراعة المخدرات وتصديرها، الى »إرهاب« »حزب الله«، وتعلن اعتراضاتها على سياسته الرسمية المعتمدة من استمرار المقاومة لتحرير ما تبقى من الأرض المحتلة، والامتناع عن نشر الجيش حارسا لحدود الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب، وصولا الى استعادة لبنان بعض حقه في مياهه (الوزاني)، إذا بها تجمد سياستها الرسمية هذه بل وتسلك ما يناقضها في نجدة اقتصاده المأزوم، وبغير مقدمات مقنعة، كأن يكون قد طرأ تبدل ما إما على سياستها وإما على السياسة المعتمدة رسميا في لبنان..
هذا يعيدنا الى جدول اعمال اللقاء الطارئ واللافت في توقيته وفي دواعيه اليوم، بين الرئيس رفيق الحريري والرئيس الاميركي جورج بوش.
ويبدو منطقياً ان ينظر »حزب الله«، المطلوب رأسه اميركياً (واسرائيلياً) بشيء من الريبة الى مثل هذا اللقاء، الذي ليس في سياسة الدولتين ما يبرر الحاجة اليه.
وقد تشارك قوى سياسية اخرى، في طرح تساؤلات جدية حول استهدافات مثل هذا اللقاء، برغم اطمئنانها الى ان »تأشيرته« قد صدرت من دمشق التي لا يخطئ الرئيس الحريري ابداً في اعتمادها منطلقاً في الذهاب ومرجعاً في الإياب، بما يحميه من سيوف المستريبين، وان لم يمنحه بوليصة تأمين شاملة ودائمة، فيبقى في دائرة التشكيك دائماً، ولا يقين..
* * *
… فأما دور فرنسا فيمكن فهمه سواء بالاحالة الى الرغبة في استبقاء موقع نفوذها »التاريخي« بعد اعادة صياغته بمراعاة الحساسيات الاستقلالية، عند لبنان كما عند سوريا، او بالاحالة الى طموح الرئيس شيراك الى لعب »دور مشرقي« بالاعتماد على التراث الديغولي وعلى النفور العربي العام من سياسة الهيمنة والإملاء والفرض الاميركية… فضلا عن العلاقات الشخصية الحميمة والثابتة التي تربط بين الرئيس الفرنسي وصديقه الممتاز رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري.
ولا يمكن ان تمنح هذه الادارة الاميركية تحديداً، الرئاسة الفرنسية مثل هذه التزكية، فتعطي مباركتها بل مشاركتها في »باريس 2« كنجدة انقاذية للبنان، بانعكاساتها المنطقية على مجمل سياساته، ولا سيما علاقاته المميزة مع سوريا، الا اذا كانت لها مصلحة جدية في هذا التصرف الذي يأتي من خارج سياق »السياسة العربية« لهذه الادارة التي لم تشتهر بحبها للعرب، معتدلين و»متطرفين«، حلفاء واصدقاء مخلصين او »عصاة« و»ارهابين«!
* * *
لقد أُغزق اللبنانيون في طوفان من الارقام عما قبل »باريس 2« وعما بعده، بحيث تم طمس الجوانب السياسية لهذا المؤتمر الاقتصادي، برغم انها تستحق المزيد من الاهتمام والقراءة الدقيقة.
لا احد يناقش من خارج نظام الاقتصاد الحر، ولا يتصل الامر بموقف مبدئي من الخصخصة والتسنيد… الخ.
ولا احد يحاول انطلاقاً من »السمعة العطرة« لصندوق النقد الدولي في خدمة الشعوب، واستطراداً ل»صندوق الدين« وماذا فعل بمصر الخديوية..
لكن التطمينات التي يوالي بعض الحكومة اطلاقها حول الانفراج القريب لأزمة اثقال الدين العام وخدمته بكل انعكاساتها الثقيلة الوطأة على الوضع الاقتصادي الاجتماعي، لا تكفي وحدها لطي الاسئلة حول النتائج السياسية لمثل هذا المؤتمر الانقاذي، على بلد كلبنان.
ومن البديهي ان يسمع اللبنانيون، من الحكم الموحَّد الآن، ولله الحمد، ما يطمئنهم الى ان هذه المعجزة الاقتصادية (لو تمت) لن تؤدي بالضرورة الى انقلاب او شبه انقلاب سياسي فيه.
… حتى لو لم يؤد مثل ذلك الانقلاب الى تسلم »قرنة شهوان«، او »خلية حمد« مقاليد الحكم في لبنان الذي كان مفلساً في الاقتصاد و»غنياً« في السياسة، والمهدَّد الآن في مصادر غناه من دون الخلاص من كابوس الاختناق الاقتصادي.

Exit mobile version