طلال سلمان

قراءة سياسية اولى في باريس 2

مبروك! لقد انعقد مؤتمر باريس 2 فعلاً، وبحضور دولي حاشد وعالي المستوى فعلاً، وحقق الغاية المرجوة منه فعلاً، فأمدّ لبنان بمعظم ما طلبه فعلاً من القروض الميسّرة والتسهيلات المالية التي تمكّنه من تنفيذ المشاريع الإنمائية التي عجز حتى اليوم عن تنفيذها.
مبروك للرئيس رفيق الحريري هذا النجاح الذي يؤكد وزنه الدولي المتميز، وحيويته وقدرته على ابتداع الحلول لمسائل معقدة وخطيرة، كمثل الدين العام الذي يبلغ مع نهاية هذا العام 31 مليار دولار بمعدل فائدة 12$ لخدمته، بما يستهلك 18$ من الناتج المحلي، كما جاء في ورقته الى المؤتمر.
وبالتأكيد فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك يستحق التحية لجهده الممتاز في إنجاح هذا المؤتمر الذي استنفر له كل هذا الحشد الدولي المهيب، بعدما ذلّل العقبة الكأداء ممثلة في الموقف الأميركي فجعله يتحول من الاعتراض الى التحفظ فإلى المشاركة من دون أن يصل الى التبني الكامل..
لقد كان جاك شيراك »لبنانياً بامتياز«، كما وصفه البعض، خصوصاً عندما جعل من قوله »إن سقوط لبنان ممنوع« شعاراً للمؤتمر… وإن كان قد بقي فرنسياً (وغربياً) بامتياز وهو يبرر جهده الخارج عن المألوف لحماية الاستقرار في لبنان بالقول بأن »انهيار لبنان سيلحق الضرر بالمنطقة ويهدد الاستقرار فيها«..
مبروك.. فمع اليوم الأول من السنة الستين لاستقلال لبنان كان »المستعمِر السابق« لهذه الجمهورية الصغيرة، يقول بلسان الرئيس الفرنسي: »لقد حافظ لبنان على وضع مستقر ولكنه خطير نسبياً، وعلينا مساعدته بخفض الديون والفوائد.. وفكّرنا أنه يجب ألا نخاطر بإضافة أزمة مالية محتملة على الأزمات السياسية والعسكرية التي تشهدها هذه المنطقة خصوصاً أنها تواجه صعوبات تنذر بالتفجر (العراق)..«.
ومع شيراك فإن معظم المشاركين قالوا بلسان وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل الذي وصف لبنان بأنه »البلد العربي التوأم للمملكة«: »ان هذا الاجتماع هو خطوة إضافية نحو المزيد من الاستقرار في المنطقة«.
أما المندوب الأميركي الذي جاء بالضوء الأخضر لانعقاد المؤتمر، ومن ثم نجاحه، وليم بيرنز فقد نوّه بأن »لبنان محظوظ جداً، وبمقدوره الاعتماد على فرنسا كصديق وحليف، وكذلك على الولايات المتحدة الأميركية«… وبعدما نوّه بنجاح الحكومة واللبنانيين والقطاع الخاص، وذكر أنه كلما عاد الى بيروت فاجأته إعادة إعمار المدينة الكبرى، أطلق »كلمة السر« التي يحملها: »ان واشنطن تشجع لبنان على التعاون بأوثق صيغة مع صندوق النقد الدولي لأجل المزيد من الإصلاحات، فتلك ضمانة أكبر للبنانيين وللأسرة الدولية بنجاح البرنامج الإصلاحي«.
ومع الإلحاح، وفي أكثر من موقع على دور صندوق النقد الدولي كرقيب، أكد بيرنز بدوره على »أهمية استقرار لبنان وأمنه وازدهاره الاقتصادي بالنسبة للشرق الأوسط ومن ثم بالنسبة للولايات المتحدة«.
مبروك، فنجاح المؤتمر أكيد، أما النجاح في المهمات التي خلص الى تحديدها المؤتمرون وتعهدت بها الحكومة، فذلك هو الموضوع.
وأما التعهدات التي تضمنتها الورقة الرسمية المقدمة الى المؤتمر فأبرزها التالية:
1 مواصلة خفض إنفاق الدولة، مع الإشارة الى أن موازنة 2003 تسجل خفضاً عن الإنفاق في 2002 بمعدل 9$.
2 مواصلة تحسين الإيرادات، مع التعهد بأنها ستشهد زيادة 16$ في العام 2003.
3 استكمال برنامج خصخصة واسع النطاق يشمل الى الهاتف (الثابت بعد المحمول) الكهرباء والمياه والمواصلات، مع عمليات تسنيد، يفترض ان توفر خمسة مليارات دولار.
وكل من هذه التعهدات صعب التنفيذ، إذا ما عدنا الى »الداخل« واستذكرنا العلل والأورام السرطانية التي تتهدد الإدارة والمؤسسات المرشحة للخصخصة، فضلاً عن المناخ السياسي الذي لا يمكن تجاهله ونحن نتحدث عن تحولات جذرية في »إنفاق الدولة« وترهل إدارتها المثقلة بالفائض من الموظفين وبالأعباء الاستثنائية التي تحملتها وتتحملها الخزينة بمبررات يقتضيها »التوازن السياسي« (وأحياناً الطائفي) ولو بالمحاباة والمداراة والمجاملة وضرورة كسب الحلفاء »للمعارك« الانتخابية المقبلة، ومن ضمنها المواقع العليا في قمة السلطة…
* * *
في التجارب السابقة التي أدت في النهاية الى تراكم هذا الكمّ الهائل من الدين على بلد صغير ومحدود الموارد مثل لبنان، كان التبرير للإنفاق سياسياً طائفياً، في الغالب الأعم: من إعادة الإعمار، في بيروت ومن حولها، إلى إعادة المهجرين، الى ما اعتبر دعماً لصمود الجنوب أو تعزيزاً للقوات المسلحة ومن ضمنها قوى الأمن الداخلي، والذي تداخلت فيه إعادة بناء ما انهار من هذه المؤسسات مع ضرورة المحافظة على »كادراتها« أو استعادتها وضمان »توبتها« ولو بالمكافأة السخية..
وفي التجارب السابقة فإن سياسة دعم النقد الوطني كثيرا ما اتخذت طابعا يكاد ينطبق عليه توصيف »الرشوة«، بحيث ازداد الأغنياء غنى، وازداد الفقراء فقراً، وكان على خزينة الدولة والمكلف »الطبيعي« أن يدفعا كلفة هذه الرشوة الثقيلة.
وفي التجارب السابقة فقد تمّ التركيز على مقولة ان »لبنان بلد خدمات« بحيث ان الزراعة قد انقرضت (بما أدى الى نزوح أعداد هائلة ممن كانوا بحكم الفلاحين الذين يعيشون من أرضهم وعليها الى ضواحي بيروت ليتكدسوا فيها مشكلين أحزمة جديدة من البؤس)، وبحيث ان آلاف الخريجين لم يجدوا فرصاً للعمل فاندفعوا يهاجرون »الى أي مكان«، بينما عشرات الألوف من متوسطي التعليم لا يجدون قوت يومهم، مما فاقم من خطورة الأزمة الاجتماعية، فعجز الشباب عن الزواج، وزادت العنوسة (بين الصبايا) بنسبة ملحوظة تثير القلق على المستقبل الخ، كما ان العديد من المؤسسات المتوسطة والصغيرة قد اضطرت الى إقفال أبوابها وتشريد العاملين فيها، هذا من دون أن ننسى دعاوى الإفلاس وهي بالآلاف.
* * *
لا شك في نجاح الرئيس رفيق الحريري في مهمته التي اعطاها كل جهده ورأسماله الممتاز من العلاقات العربية والدولية.
ولا شك في ان الجهد الصادق الذي بذله الرئيس الفرنسي جاك شيراك لمساعدة لبنان، قد أثمر، فحقق مصلحة وطنية فرنسية، ومصلحة اوروبية (الى حد كبير) اضافة الى انه وفر للبنان، المثقل بديونه فرصة طيبة لالتقاط نَفَسه، وإعادة تنظيم ادارته ومؤسساته بما يمكّنه تدريجياً من حسم هذه المعضلة التي تتهدده في يومه وغده… هذا اذا احسن التقاطها والإفادة، جدياً منها.
وقد يعكّر من فرح الإنجاز ان تطرح الاسئلة الصعبة، ومعظمها سياسي، والباقي يتصل بقدرة الادارة المالية للبلاد على استيعاب هذه القروض او الكفالات او الاكتتابات بسندات الدولة (وكل ذلك سيتضح لاحقاً).
لكن الحديث المتكرر عن دور صندوق النقد الدولي لا بد ان يثير شيئاً من القلق.
فالرئيس الفرنسي قد اشار الى »الصعوبة التي واجهناها ممثلة بالموافقة المسبقة لصندوق النقد الدولي على برنامج معين قبل تقديم المساعدات.. غير ان عدداً من الدول غضت الطرف عن هذه القاعدة الاساسية (الى متى؟).. نظراً بالطبع الى الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة المعنية، ونظراً الى دقة الوضع اللبناني..«
والرئيس الحريري اكد ان ثمة دولا شرطت مساعداتها اللاحقة بتوافق مع صندوق النقد الدولي.
ورئيس حكومة كندا، كريتيان، قد اكد ان »مساهمتنا ستكون وفقاً للطبيعة النهائية ومن خلال صندوق النقد الدولي، وستتراوح بين مئة ومئتي مليون دولار«.
وليس سراً ان الحديث عن عودة المؤتمر، بصيغة او بأخرى، الى الانعقاد بعد ستة او تسعة شهور، كما اشار الرئيس الفرنسي، انما يتصل بدور خاص لصندوق النقد الدولي، الذي امكن الآن القفز من فوق موافقته المسبقة لكنه سيكون »الآذن« او »المانع« للخطوة او الخطوات التالية بالتأكيد.
***
يقول الرئيس الحريري، وهو على حق، ان اطراف النجاح ثلاثة، اذ يضيف الى لبنان وفرنسا، دوراً ضمنياً لسوريا في باريس 2. فأي حديث عن الاستقرار في لبنان يشمل سوريا، سواء ذكرت بالاسم ام لم تذكر.
بالتأكيد فإن سوريا معنية بانفراج الازمة الاقتصادية في لبنان، بل مستفيدة منها، وهي بالتالي ستساعد ضمن ما تملك المساعدة فيه، اي في الجانب السياسي اساساً، فضلا عن الامني، في انجاح الالتزامات التي تعهدت بها الحكومة.
ولعل هذا »الجانب السياسي« هو مربط الفرس.
فليس سراً ان لبنان مأزوم سياسياً، بقدر ما هو مأزوم اقتصادياً.
ومع ان »تفريج« الازمة الاقتصادية امر طيب، الا ان التأزم السياسي يحتاج معالجة مختلفة، لا ينفع فيها المؤتمر الدولي.
وعسى ان يسهّل النجاح الاقتصادي امر النجاح في المجال السياسي، وهو الامتحان الصعب الذي لا تنفع فيه المساعدة من الخارج، بل إنها تزيده تعقيداً!

Exit mobile version