طلال سلمان

قراءة سورية لحركة بيريز

لدمشق قراءتها المتأنية لحركة شمعون بيريز المتعجلة والمتسمة بقدر من روح المغامرة الضرورية لاعلان قيام »عهد جديد« والانتهاء الفعلي ل»عهد اسحق رابين«.
لقد وصلتها »الرسالة« التي يعمل بيريز وبحيوية ملحوظة على تعميمها والتوكيد على دلالاتها السياسية: ان اسحق رابين قد مات حقù، وذهبت معه رؤاه وأساليب عمله، وشمعون بيريز ليس الآن رئيسù بالمصادفة القدرية لحكومة رابينية، ولكنه »قائد« مطالب ومؤهل للقيام بدور »تاريخي« لا يستطيعه غيره. لقد ظلمته الظروف في الماضي، فجعلته »ثانيù« في الغالب و»ثانويù« أحيانù، أما وقد جاءته الفرصة فلسوف يعمل لتحقيق رؤاه الخاصة وباسلوبه الخاص. ولسوف يثبت انه القادر على النجاح حيث فشل سلفه، لانه أعظم شجاعة وأقل ترددù، ولانه حاسم في خياره »السلمي«، ويعرف كم ان الوقت عنصر حاسم في انجاز بهذا الحجم، والا دهمت التحولات في الأمزجة والسياسات كما في المصالح المشروع وصاحبه.
لذا لم تواجه دمشق مشكلة في تلبية الدعوة الاميركية للعودة الى طاولة المفاوضات في واشنطن. في الأصل، لم تكن هي من عطل التفاوض وكاد يهشم الطاولة والاطار، بل انه رابين من فعل ذلك حين قدم الثانوي على الاساسي، والأمني على السياسي، فبات »الخبراء العسكريون« أهم من »الوفد المفاوض«، وباتت محطات الانذار الارضية شرطù لمباشرة الحديث في الترتيبات الامنية، وظلت »القناة السرية« مطلبù، في حين بهتت مسألة السلام وتراجعت الى ان علقها رابين حتى نيسان 1996 مبدئيù بحجة انشغاله بالموازنة.
وكان طبيعيù في ظل اسلوب بهذه الفظاظة وبهذا النقص الفاضح في الوعي بأهمية »السلام« كمصلحة اسرائيلية اولا، أن تتعطل المفاوضات، وان يرتبك دور واشنطن فتنقلب ادارتها من »وسيط« و»راع« الى »طرف« تحت ضغط الابتزاز اليومي الذي مارسه اسحق رابين مستفيدù من موقع قوة اليهود كصوت مرجح في الانتخابات الاميركية.
ربما لهذا كله اشترطت دمشق ان يعلن وارن كريستوفر، وقبل ان يغادر المنطقة، موعد استئناف المفاوضات ومكانها ومستوى المشاركين فيها.
واذا كان بيريز قد اعلن العودة الى التفاوض من دون شروط مسبقة فان ذلك يتضمن ادانة متأخرة لرابين اكثر مما يتضمن تعهدù قاطعù للسوري بنتائج طيبة لهذه المفاوضات الصعبة، سيما وانها مؤهلة لان تضع خاتمة هذا الطور من اطوار الصراع العربي الاسرائيلي، بكل ماضيه المثقل بالدم، وبكل تعقيدات الاحتمالات المستقبلية للطور الجديد الغامض بعد وغير المحدد السمات.
وفي قراءة دمشق المتأنية ما يفيد بأن واشنطن المحكومة الآن بالرهان على »رجلها« الجديد في تل ابيب، اكثر ارتياحù لشمعون بيريز واسلوبه، واكثر تفهمù وتقبلاً للموقف السوري الذي كان يزعج بصموده اسحق رابين فيرد عليه بفظاظة العسكري المزدهي بانتصاراته لا بفطنة السياسي صاحب المشروع المستقبلي…
ولأن بيريز يراها فرصة لأن تتقدم اسرائيل بعرض يمليه عقلها لا ذراعها، فان بامكان واشنطن ان تستعيد بعض توازنها وبالتالي دورها الذي كان عطله رابين، كلية، بعد الجلسة اليتيمة في تموز الماضي.
ان منطق بيريز بسيط ومباشر في ظاهره: اما وقد مات رابين فلماذا تعقيد الشروط للجلوس الى المفاوضات الحاسمة؟! ان المفاوضات مصلحة اسرائيلية، لأن »السلام« بصيغته المطروحة حاليù مصلحة اسرائيلية، ومجيء زمن السلام بكل احتمالاته ووعوده المذهبة يجب الا يتأخر بسبب الرغبة في اذلال عدو الماضي شريك المستقبل.
لكن دمشق تعرف ان شمعون بيريز ليس بابا نويل، وان اسرائيل ما تزال هي اسرائيل، وان ما يطلبه منها بيريز أكثر بكثير مما كان يطلب رابين. انه يطلب منها »العرب« جميعù. وهو يكبر صورتها في عيون الاسرائىليين ليبرر مطالبتها بالاكثر، وليس فقط ليبرر امامهم »تنازله« او اضطراره لدفع »الثمن الكامل مقابل السلام الكامل«.
اي ان ما يطلبه يشمل في ما يشمله »تغطية« ما تم من اتفاقات مع اطراف عرب آخرين، ثم القيام بدور في تحمل المسؤولية عن استقدام من تبقى من العرب الى »المسيرة«، من دون اي تحديد لطبيعة »الشراكة« في المستقبل، وادوار الاطراف المدعوين اليها.
اللافت ان بيريز كان حريصù ان يبلغ دمشق، عبر كريستوفر، ان كل ما نشر منقولاً عنه حول دور سوريا في لبنان، لا اساس له من الصحة، وأنه كان حريصù على تكذيبه فورù، وتعميم التكذيب، لأنه يرى فيه اساءة اليه والى دوره اولاً، وقبل ان يكون وسيلة لتحريض اللبنانيين، وبالذات منهم المسيحيين الذين كانوا، يتجمعون في السينودس، وبضيافة الفاتيكان، ضد سوريا ودورها في لبنان.
ودمشق في قراءتها المتأنية لحركة بيريز تعرف ان فتح الملف اللبناني يجيء بعد تركيز اسس التفاوض معها، وليس قبل ذلك، وان التفاوض عن اللبنانيين ونيابة عنهم يسيء اليها ويضعف موقفها ولا يعززه، تمامù مثل المطالبة بالفصل الكامل بين المسارين وهو فصل مستحيل عمليù، والكل يقر بهذه الاستحالة من واشنطن الى تل ابيب وصولاً الى بيروت ومعها دمشق.

Exit mobile version