طلال سلمان

قراءة ثانية في حكم مجلس عدلي

كأي نص مركب، يعالج حالة محددة داخل وضع ملتبس، ويتجه في ضوء شمعة ضعيفة الى زاوية في قلب الليل، يحتاج الحكم التاريخي الذي اصدره المجلس العدلي في جريمة اغتيال داني شمعون، لاكثر من قراءة متسرعة، سواء أكانت متشفية أم صادرة عن حكم مسبق.
انه مجموعة أحكام في حكم واحد شمولي بإيحاءاته ودلالاته.
وهو في العديد من فقراته يتحدث عن »الجاني« سمير جعجع وكأنه الجناة جميعù، او كأنه رمزهم، او ربما كأنه الاول في قافلة يفترض ان تساق الى المجلس العدلي لتنال جزاءها العادل.
وهو يحرص من خلال ادانة جعجع على عدم تبرئة الجعاجعة الآخرين.
لقد حاكم وحكم على »الوزير السابق« و»المجرم الحالي«، لكنه لم يبرئ ابدù المسؤولين الحاليين من »المجرمين« السابقين..
بل لقد حرص المجلس العدلي على تمييز نفسه عن السلطة السياسية، ولعله قد عرَّض بها اكثر مما دافع عن نفسه حين قال في سياق حكمه:
»ان المساواة بين الناس لا يمكن أن تعني ان يمتنع المجلس عن محاكمة متهم محال عليه، وعن الحكم عليه اذا ثبتت ادانته، بحجة ان هناك جرائم لم يكتشف مرتكبوها، او ان هناك مجرمين آخرين ما زالوا طليقين او تأخرت محاكمتهم..«.
اذن فهو لم يبرئ الآخرين حين ادان جعجع،
بل لعله يشكو من »انهم« لم يقدموا اليه الا »جعجع« واحدù،
ويمكن الافتراض ايضù انه ومن موقع القاضي يكاد يشير الى الآخرين الذين ما زالوا طليقين، ولعله ينذرهم حين يذكِّر بأن »محاكمتهم قد تأخرت فحسب… وكأنه يريد ان يوحي بأنه ينتظرها وينتظر»هم« غدù او بعد غد!
ليس للجريمة طائفة، ولا تتجه المحاكمة الى »دين« المتهم او مذهبه او معتقده السياسي او منطقته الجغرافية،
وبالتالي فليس الحكم على جعجع »الماروني« تبرئة لجعجع »السني« او »الشيعي« او »الدرزي« او »الكاثوليكي« او »الارمني الارثوذوكسي«،
واذا كانت المحاكمة وبالتالي العقوبة، مثل الجريمة، شخصية ولا تطال طائفة المتهم، فان الحكم لا يتجاوز شخص من ادين فحكم.
فلا الحكم على سمير جعجع ادانة للموارنة او عموم المسيحيين، ولا هو بأي حال تبرئة للجعاجعة المسلمين لأية طائفة او مذهب انتموا.
ولقد يفيد التذكير بأن امراء الحرب الجعاجعة قد تخصص كل منهم بقتل المنتمين الى دينه او طائفته بالذات، اذ نادرù ما قتل »جعجع الماروني« الا موارنة، ونادرù ما قتل »جعجع السني« الا من السنة، ونادرù ما قتل »جعجع الشيعي« الا شيعة، وكذلك الامر بالنسبة لجعجع الدرزي والكاثوليكي والارثوذكسي والارمني وصولاً الى البروتستنتي..
والسلطة قد تحصن الجعاجعة المنتصرين فلا تطالهم يد القضاء، ولكنها لا تأتيهم بالبراءة، ولا تحسِّن صورتهم في عيون ضحاياهم، بل انها في الغالب الاعم تؤكد صورتهم القديمة مع اضافة جديدة انهم »مغتصبو سلطة«، وانهم من الموقع الجديد يتابعون سيرتهم الاولى معهم.
ان ادانة جعجع هي ادانة لشركائه اعدائه في الحرب،
ان الحكم قد لمس كل انجازاتهم المشتركة: قهر الناس، مصادرة املاكهم، حجز حرياتهم، التسلط عليهم وإلغاء حقوقهم الطبيعية، واختلاس المال العام…
من داخل كل فقرة من حيثيات الحكم الطويل تطل صور »الامراء« جميعù، على حقيقتها، بغير تمويه او اقنعة من الالقاب المفخمة!
اللقب لا يبدل طبيعة صاحبه،
والحكم يتجاوز الالقاب والمناصب ليصيب الممارسة ذاتها فيدينها، متجاهلاً أين بات اصحابها اليوم، واذا ما كانوا طليقين بعد لان محاكمتهم قد تأخرت.
وقد تفهم الناس شكوى المجلس العدلي، من انه لم يكن مطلق اليد في اختيار من يستحقون المحاكمة، وانه نظر في ما قدم اليه فحسب،
ولذا فهم يرفعون وجوههم الى السماء مستنجدين: متى يكتشف مرتكبو الجرائم الاخرى (وهم معروفون بالاسم والعنوان والملامح المميزة)؟ متى يضبط المجرمون الآخرون فلا يبقون طلقاء؟! ومتى يحين موعد المحاكمات التي تأخرت عن موعدها؟!
ومرة أخرى فان ادانة جعجع هي ادانة لاقرانه وليست تبرئة لهم او لأي منهم، فالحكم على البعض هنا هو حكم على الكل، حتى لو ارجئ التنفيذ!
***
رابين يبيعنا من دمنا..
بعد 17 سنة من »المهمات القذرة« قررت اسرائيل احالة الميليشا التي ركَّبتها في الشريط المحتل واعطتها اسم »جيش لبنان الجنوبي« الى … التقاعد!
بل ان في كلام اسحق رابين ما يوحي بأنه قد يحيل »عملاءه« اللبنانيين الى المحاكمة!
واللعبة مكشوفة تمامù: يفضحها توقيتها اولاً، كما يفضحها الاعلان المدوي عنها. لكأن رابين يريد ان يبيع لبنان عبر سوريا من كيسهما المشترك! بل من دمهما المشترك!
لكأنه يستهدف المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان، و»حزب الله« تحديدù، بمناورته الخبيثة هذه: ها انا قد خلعت صاحبي انطوان لحد، فاخلعوا انتم اصحابكم!!
التوقيت يفضح هذه »الشهامة«: عشية اللقاء في واشنطن مع رئيس الاركان في القوات العربية السورية العماد حكمت الشهابي، تبادر اسرائيل الى »تسريح« نظري للميليشيا التي اتخذتها شعارù لجيش الاحتلال وممسحة له واداة رخيصة تكلف بالمهمات القذرة وتتلقى الصدمات وتدفع من دم منتسبيها ثمن سلامة الجنود المتحدرين من صلب »شعب الله المختار«!
إنها خدعة جديدة، تخفي خلفها مطالب لا يمكن قبولها،
هل يقدم رابين رأس عميله لحد هدية مسمومة ليطلب ثمنù لا يقدر لبنان، وقد تعجز سوريا عن دفعه؟!
هل يعرض على لبنان (وسوريا) عرضù مشابهù للذي قبله ياسر عرفات: بأن يتحول عموم اللبنانيين (والسوريين) الى حرس حدود اضافي للاحتلال الاسرائيلي؟!
ولعله يطلب الايرانيين ايضù، لكي يرسخ اطمئنان السابحين والسابحات من المستوطنين والمستوطنات والسائحين والسائحات المتعددي الجنسية؟!
انه يعرض عرضù لا يمكن رفضه: ان ينضوي الجميع في جيش عربي، ومسلم لحماية اسرائيل، بدلاً من تلك الشراذم من المغلوبين على امرهم او باعة وطنهم الذين ينتحرون وينحرون أهلهم كل يوم.
واذا كان هذا العرض هو عنوان المباحثات مع العماد حكمت الشهابي في واشنطن فان الخاتمة لن يتأخر اعلانها طويلاً، ولعلها لا تنتظر اليوم الثالث من هذه المباحثات التي عوملت وكأنها اختراق للمستحيل!
في اي حال، ومن باب التذكير بالتاريخ، لا بد من الاشارة الى ان التعامل مع اسرائيل طريق وحيد الاتجاه لا يوصل الا الى الموت (المادي كما المعنوي)،
واستعيدوا في ذاكرتكم القائمة الطويلة من أسماء المتعاملين من قبل اجتياح 1982 وحتى اليوم!

Exit mobile version