طلال سلمان

قراءة ثانية دعوة الى »الحوار«

للوهلة الأولى قد يبدو للمراقب البعيد وكأن القوى السياسية في لبنان، والحكم من ضمنها، تمارس ترفاً غير مبرر من خلال تداعيهم المتكرر على مدار الساعة الى »الحوار« حول ما يفترض أنه من »البديهيات«، بينما تهب على المنطقة عاصفة عاتية تتمثل في هذا الهجوم الأميركي الإسرائيلي الكاسح الذي يتهدد كياناتها جميعاً في وجودها، ويتهدد شعوبها بالإذلال والإفقار والتشريد وافتقاد الهوية.
أما عند التدقيق في المعاني المضمرة في الدعوات المتوالية الى »الحوار« فقد يتبيّن ان هذه الكلمة الصغيرة التي باتت وكأنها محور الحياة السياسية في لبنان إنما تختزل »أزمة خطيرة« تتمثل في ما يعتبر »خللاً فاضحاً« في الصيغة السياسية التي يستند إليها نظام ما بعد »اتفاق الطائف« الذي مرّ على اعتماده أساسا »للجمهورية الثانية« ثلاثة عشر عاما إلا بضعة أسابيع.
بعيداً عن التمويه والمداراة واللباقة واللياقة والحرص المبالغ به على »الوحدة الوطنية« فإن كلمة »حوار« تعني فعليا أن »المسيحيين« في لبنان يستشعرون شيئاً من الغبن أو الحيف الناجم عن ضعف مشاركتهم في »الجمهورية الثانية«.
ويرى »المسيحيون« الذين يعتبرون أنهم قدموا تضحية جسيمة من حقوقهم في السلطة بقبولهم اتفاق الطائف، أنهم لم يُنصَفوا في »جمهوريته« لا سيما بعد تثبيتها بصيغتها الحالية عبر إنهاء »التمرد« الذي قاده آخر الرؤساء بالوكالة (أو بالزور) في »الجمهورية الأولى« في 13 تشرين الأول 1990، والذي ينظرون إليه في »منفاه« الآن وكأنه بمصيره »الشاهد الحي« على »قهر إرادة المسيحيين«..
يزيد من الإحساس بالغبن أن الخصم اللدود للجنرال الذي حاول اغتصاب السلطة، هو الآن في السجن »شهيد حي« وعنوان للظلم البيِّن بل الفاضح الذي ارتُكب ضد المسيحيين، بمن فيهم »القائد« الذي تحمّل عبء تمرير اتفاق الطائف مسيحياً…
وبهذا وذاك يتبلور المنطق القائل إن المسيحيين قد اختزل دورهم في السلطة الى »موقع رمزي« لا تغني معنوياته عن صلاحياته الواسعة التي كانت له قبل الحرب الأهلية.
بالمقابل فإن »المسيحيين« الذين ذهب الموت بقياداتهم التاريخية (الراحلين كميل شمعون، بيار الجميل وريمون إده، فضلاً عن بشير الجميل)، يفتقدون المرجعية السياسية المؤهلة، وهو ما دفعهم الى التوجه نحو بكركي بوصفها المرجع الأخير والرمز الدائم للتميّز واحترام خصوصية لبنان كيانا سياسيا وصيغة حكم ودورا استثنائيا ثابتا فيها.
من موقع »المغبون« ينظر المسيحيون بشيء من »الحسد« الى اخوانهم المسلمين الذين »يتمتعون« بزعامات وقيادات ومرجعيات نافذة وشابة تكاد تحتكر السلطة، وتتجاوز حقوقها فتكاد تختار للمسيحيين من يمثلهم وينطق باسمهم، وتعاملهم معاملة »عزيز قوم ذل«!
ثم ان »المسيحيين« يرون أن رئيس الجمهورية، في عهد ما بعد الطائف، قد خسر بعد صلاحياته الواسعة موقعه التمثيلي شعبيا، فلم يعد يأتي تعبيرا عن امتيازاتهم، وعن »خصوصية دورهم« الذي لا بديل منه ولا غنى عنه في لبنان (والمنطقة)، بل بتأثير النفوذ السوري المغطى بالتأييد »الإسلامي« و»التحاق« مسيحيي الأطراف..
ربما في ضوء هذه الدلالات التي يفترضها البعض مضمرة في الدعوة الى »الحوار« يمكن الاستنتاج المتعجل ان مجرد قبول الحكم بدخول »الحوار« يعني تسليمه بأنه مطعون في شرعيته…
فالحكم، بهيئاته الأساسية، رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي ومن ثم الحكومة، هو نتيجة انتخاب شعبي، ومن هذا الانتخاب يستمد شرعيته، ومجرد قبوله بأن يكون طرفا في الحوار يعني أنه سلّم بإسقاط شرعيته وغدا فريقاً مثل جماعة قرنة شهوان أو اللقاءات والتكتلات والجبهات القائمة أو المنوي إقامتها.
طبيعي والحال هذه ألا يستقبل رئيس الجمهورية أي طرف يطالبه بأن يحاوره، فهو »المرجع« الشرعي، رأس الدولة، ورئيس كل اللبنانيين لأي طائفة انتموا، ولا يمكنه أن يقبل وهو على قمة السلطة مقولة إن المسيحيين مغبونون وإن دورهم في الحكم ضعيف أو »رمزي« أو ناقص الصلاحية، فهذا طعن فيه مباشرة وبتمثيله الشرعي لجميع مواطنيه وبالأساس لأبناء دينه أو طائفته.
أما المنطقي فهو أن يعتبر هذا الإلحاح في الدعوة الى »الحوار«، الآن تحديداً، إعلاناً بافتتاح معركة رئاسة الجمهورية، في الموعد التقليدي، أي قبل حوالى سنتين من نهاية العهد… وبديهي أن يكون »نجوم« الدعوة الى الحوار ليس فقط من المسيحيين بل من الموارنة تحديداً، وبالذات من بين المرشحين، تقليدياً أو من بين مقتحمي هذا الميدان الذي لم يعد مقفلاً على »الزعامات التاريخية«، وإن كان ثمة من يفترض اليوم أنه قد آن الأوان لأن يصل »الأصلب مسيحية« من بين الموارنة، وليس الأكثر اعتدالاً..
على ان ما انتهت إليه الدعوة الى »الحوار« حتى هذه اللحظة فهو معاكس لما كان يُراد منه، أو هذا ما يوصي به ظاهر التطورات…
فالتعديل الجوهري الذي طرأ على الخطاب السياسي لجماعة قرنة شهوان، والذي بلغ ذروته باعتبار رئيس الجمهورية راعياً للحوار وليس طرفاً فيه (أو هدفاً له)، فتح الباب على مصراعيه لتنشيط الحديث حول »التمديد« بدلاً من التركيز على شرط »التطرف« في الرئيس الجديد..
فإذا أضيف الى هذا »التطور« ما كان حققه رئيس الجمهورية من نقاط في صراعه المفتوح مع رئيس الحكومة في حلبة الهاتف الخلوي، فإن حديث »التمديد« قد يجد مساحة أوسع… لا سيما إذا ما استذكرنا تصريحات بعض القيادات السياسية النافذة والمعروفة بدقة القراءة لاتجاهات الريح في لبنان ومن حوله، ولدور سوريا على وجه الخصوص.
هل انقلب السحر على الساحر، وصار »الحوار« معبراً للتمديد للرئيس الذي كان متهماً، مثل سلفه، بالتهاون في حقوق المسيحيين، ولا سيما في صلاحيات الرئيس الماروني ودوره كحاكم لا كحكم في الجمهورية الثانية؟!
إن كان مثل هذا الاستنتاج صحيحاً يكون »العهد« الذي اتهم بأنه »شاخ قبل أن يكمل عامه الأول« قد وصل الى الثلث الأخير من ولايته وهو مرشح جدي لولاية ثانية، لم يكن الحديث فيها مقبولاً أو جدياً، لا عند الأطراف المنادية بالحوار، ولا عند تلك التي ترى أنها مستهدفة به..
على أن هذا الترف اللبناني كله قد يتهاوى مع أول ريح تنذر بالعاصفة الأميركية الإسرائيلية التي تتهدد المنطقة بكياناتها وبشعوبها.
والحوار مطلوب دائماً، لا سيما إذا كان يستهدف إقفال الباب على مخاطر الحرب الأهلية التي قد تجددها العاصفة الأميركية الإسرائيلية الجديدة، وليس التمهيد لها بإشغال الداخل بنفسه وإشغال سوريا، مرة أخرى، بالهمّ اللبناني الثقيل، لأن أهله لا يحسنون علاجه

Exit mobile version