طلال سلمان

قذافي ومبادرتة مجانية

حسم العقيد معمر القذافي أمره وانتهى الأمر: لم يعد النصح يجدي ولا اللوم يفيد.. مع ذلك يمكن الجزم بأن »الأخ القائد« كان يمكنه ان ينال مقابلاً مجزياً جداً، لنفسه ولبلاده ولأمته، لقاء صفقته غير المتكافئة مع الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش، التي تجاوزت في عدائيتها للعرب عموماً (وللمسلمين) أية إدارة سابقة، من دون ان يخفف من غياب التكافؤ وسيط حليفها الثابت على الصح والخطأ رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير.
لقد أعطاهم العقيد القذافي، حتى في تقديرهم، فوق ما يطلبون وقبل ان يطلبوا. وقد يكون ذلك حصافة وبعد نظر، ولكن الجميع في الغرب قبل الشرق، وبين الخصوم قبل الأصدقاء يجزمون بأن القذافي لم يأخذ بالمقابل لا ما يستحق فعلاً، ولا ما كان بإمكانه ان يأخذه، ولا ما كان الأميركيون (ومعهم بلير) مستعدين ان يعطوه، ومرة أخرى لنفسه ولبلاده ولأمته.. التي ما تزال عربية.
أعطاهم ليس فقط من حساب رصيده ورصيد ليبيا، بل كذلك من رصيد آخر حلفائه الاستراتيجيين: سوريا بين العرب، وايران بين المسلمين.
والأخطر انه أعطاهم، قافزاً من فوق ترسانة السلاح النووي الإسرائيلي، وبغير ان يفيد من مبادرته، أقله في المساومة، خصوصاً وان هذه الترسانة تصل في تهديدها بالتدمير إلى ليبيا، بل وتتجاوزها إلى آخر حدود »الوطن العربي«، شرقاً وغرباً… والتهديدات الإسرائيلية العلنية تركز، أكثر ما تركز على سوريا وإيران، متعهدة بالاغارة على هذين البلدين لتدمير معنوياتهما (بداية) ثم ما قد تملكانه من أسلحة ربما تصل إلى فلسطين المحتلة في مداها.
ولقد تصرّف الأميركيون ومعهم البريطانيون بلؤم شديد: أعطوا العقيد القذافي من طرف اللسان حلاوة، ثم اندفعوا يشهِّرون بأصدقاء ليبيا التاريخيين في أوروبا، بداية، وفرنسا منهم بالطليعة، وبعدها المانيا مروراً باسبانيا وصولاً إلى روسيا.
أما بالنسبة لسوريا (ومن بعدها إيران) فقد بات ممكنا استفرادها وتشديد الضغط عليها بالمحنة العراقية المفتوحة.
الاخطر من هذا كله: الاستثمار الإسرائيلي لهذه المبادرة الليبية التي كان يمكن ان يفيد منها بكل تأكيد الشعب الفلسطيني المحاصر بالقتل، المصادرة أرضه بيارة بعد بيارة وحقلاً بعد حقل، والمدمرة مدنه وقراه ومخيمات لجوئه بيتاً بعد بيت.
ولقد جاءت هذه المبادرة الجديدة بعد سابقتها ممثلة بالاقتراح الجريء للعقيد القذافي بدولة ثنائية القومية على أرض فلسطين، ابتدع لها اسمها »اسراطين« ومبررات قيامها اللاغية لأسباب الصراع التاريخي بين »الشعبين« ومن ثم بين العرب واليهود كما يفترض.
كان الأمل ان »يبيع« العقيد القذافي مبادرته هذه لقاء بدل سياسي مجزٍ، تفيد منه بلاده وأهله العرب وأصدقاؤه في العالم، بما يحصن سلامته ويمكنه من لعب دور كبير يليق بمثل ما قدمه، بغير طلب.
وكثيرة هي المفاجآت التي طالما باغت بها »الأخ معمر« شعبه وأمته، محبيه وأصدقاءه ومن ثم خصومه. إنه، دائماً، القلِق المقلق، المتعَب المتعِب، المتبدِّل المتحوِّل، في الأفكار والأزمنة والأمكنة.. حتى لقد ابتدع »نظرية عالمية« جديدة، وابتدع تقويماً إسلامياً جديداً يبدأ بوفاة النبي محمد وليس بهجرته من مكة إلى المدينة، وابتدع أسماء مختلفة للأشهر، وابتدع قواعد سلوك للأفراد والمجتمعات، لأصول التدريس وللتعليم الجامعي ومعاهد وكليات هي غير المعتمدة في العالم كله.
كان معمر القذافي يحلم بابتداع عالم جديد تماماً…
لكن تلك الأحلام قد طويت في ما يبدو. لعله اليأس من إمكان التغيير، عربياً ودولياً، هو الذي دفع به إلى التخلي عن كل ما كان يبشّر به.
ولكنه بمبادرته الجديدة يؤذي أهله وأصدقاءه، ربما بغير أن يقصد.
فهو هكذا دائماً: يندفع مع ما يقتنع به إلى الحد الأقصى.. فحين كان »أميناً على القومية العربية« ذهب مع ذكرى جمال عبد الناصر إلى حد النقل الحرفي لبعض فشل تجاربه في التنظيم داخلياً، وفي التقاط كل من ادعى أنه كان يعرفه أو أنه كان صديقه بدليل صورة له معه.
أما حين غضب على السادات ومنه فقد حرّم ليبيا على العمال المصريين الذين كانوا يساهمون في بناء هذه البلاد الغنية بثروتها الفقيرة بعديد شعبها.
وتكرر هذا الأمر مع مختلف الرعايا العرب، فكان كلما غضب من حاكم »انتقم« نظامه من الرعايا، الذين ربما كانوا من المعارضين لنظام بلادهم المغضوب عليه.
وحين قاتل الغرب لم يوفر أسلوباً، ولم يبخل على منظمة معارضة ولو كان أسلوبها دموياً، من الهنود الحمر الذين نسوا لونهم (وحقوقهم!) إلى الإيرلنديين الذين لم يترددوا في اعتماد الحرب الأهلية طريقاً إلى الاستقلال.
وللحق فهو قد أعطى المقاومة الفلسطينية، ولفترة طويلة فوق ما طلبته، من السلاح والمال والدعم السياسي… ولكنه، من بعد، غضب على القيادات فتخلى عن الشعب الذي أحبه ورفع صوره
طويلاً، فتركه كما غيره من القادة للقتل الإسرائيلي بحصار الموت.
معروف أن معمر القذافي يكره الجمود ويضجره الثبات وحتى السكن في مكان واحد.
ومعروف أنه يعطي فيذهل، ولكنه إذا ما خاب أمله يقطع وينقلب إلى الضد.
في المغرب والمشرق هناك دائماً صورتان لمعمر: مقبل بحماسة للمطالبة بما يتجاوز الواقع، أو مدبر إلى حد قطع أي علاقة، بل وربما الذهاب إلى الحرب مع من كان يسعى إلى الوحدة معهم.
على أن كل الذين أحبوا معمر القذافي قد تعبوا من الركض خلفه وهو يندفع من مغامرة إلى أخرى، بغير أن يحتاط، أو أن يهتم إلى مدى تقبّل »الجمهور« لتحولاته.
هذه المرة يتبدى وكأن العرب جميعاً قد فجعوا بهذه المبادرة المجانية الجديدة التي تبرع بها معمر القذافي لأعتى اعداء العرب، والتي شكلت صدمة عنيفة لأصدقاء العرب في العالم، وعلى رأسهم البابا في الفاتيكان وشيراك في فرنسا وشرودر في المانيا، وكل تلك الملايين من الأوروبيين الذين خرجوا إلى الشوارع بغضبهم واعتراضهم على الحرب الأميركية لاحتلال العراق.
ومهما كان رأي معمر القذافي في الأنظمة العربية التي تعامل معها بالودّ أو بالحرب، على امتداد ثلث قرن أو يزيد، فليس من حقه ان ينتقم من »شعوبهم« ليجازي الحكام… انه بذلك يعاقب الأمة كلها مرتين!
وليس في التصور انه بإمكان القذافي، بعد، ان »يشتري« بعض »التقديمات« الأميركية للفلسطينيين، فضلاً عن سوريا وايران وقد أضعف موقفهما (التفاوضي، بالحد الأدنى) بمبادرته..
لكنه سيبقى مطالباً بأن يعوض شعبه في ليبيا، الذي طالما قاتل وناضل مع أخوته العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، بتقديم تعويض ما للفلسطينيين، سياسياً أولاً ومن ثم مادياً، يخفف عليهم وطأة حصار الموت اليومي.
لقد قدّم معمر القذافي للأميركيين أكثر من الكثير، فهل يبخل على شعبه وعلى اخوانه وبالذات الفلسطينيين منهم، بالقليل القليل… قبل ان يغادرهم وهم غارقون في دمائهم؟!
.. وهو لن يقدّم إلا ما كان وربما مازال بامكانه ان يأخذه من إسرائيل التي ما تزال عدواً، عبر الإدارة الأميركية التي ما تزال تحتل العراق، مما يهدده بمصير فلسطيني… وربما عبر شريكها الوسيط البريطاني!

Exit mobile version