طلال سلمان

قديس في زمن فتنة

ما زال للقديسين مكان في هذا الوطن المجرّح بالفتن المتنقلة والتي لا تبدو لها خاتمة مطمئنة في المدى المنظور.ولقد كان المشهد أجمل من أن يكون حقيقياً، صباح أمس، وبيروت تفتح قلبها لحشود المؤمنين الآتين من مختلف أنحاء لبنان، لكي يشاركوا بالحضور الشخصي، في مناسبة تطويب الأب يعقوب الحداد الكبوشي،لا يتعلق الأمر بالفارق في الإيمان بين متصدري الصف الأول في الاحتفال، وبين المحتشدين في الخلف ومعهم المسابح والأدعية والتضرعات،بل هو يتعلق أيضاً بأن أخبار انفجار الوضع الأمني في طرابلس مجدداً كانت تشوّش على الاحتفال بهذا الكاهن الذي سيرسم قديساً، بعد أيام، وهو القائل <إن طائفتي لبنان والمتألمون>،.. و<المتألمون> في تزايد مستمر، وفي مختلف أنحاء لبنان، حيث تتنقل <الفتنة>، بغير قيود، لأن المناخ المسموم يحتل مساحات إضافية على مدار الساعة، يقتحم البيوت والنفوس، ويفسد علاقات الأخوة والمصاهرة وصداقات العمر فضلاً عن <المواطنة> وأثقال أعباء الحياة التي تنهك كواهل الجميع… بغير تمييز.باشرت <الفتنة> ضرب وحدة الشعب، وأقامت حدوداً بالدم، في بعض الحالات القابلة للتكرار، بين الطوائف والمذاهب…لم تعد الأزمة سياسية، وإن ظلت تمد الفتنة أو هي تموهها بعناوين سياسية، فاتخذت بداية من تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية الذريعة، أما بعد انتخابه عبر وساطات وشفاعات تجاوزت <المحلي> إلى <العربي> فالإقليمي فالدولي، فقد أطلت علينا عبر تعقيدات تشكيل الحكومة… وها أن هذا التشكيل السحري معطل! وكلما تأخر <استيلاد> الحكومة العتيدة انتفت الحاجة إليها، لأن <الأمر الواقع> سيقيم <حكوماته> على مستوى الأحياء في المدن، وعلى مستوى أدنى بين القرى التي كانت متجاورة إلى حد التآخي وغدت متباعدة إلى حد الخصومة الآخذة الى الاحتراب!… ومع التأخر أو التعطيل المقصود لتشكيل الحكومة سيتآكل موقع رئاسة الجمهورية الذي افترض اللبنانيون أن ملء سدته بمرشح الإجماع سيمكن من استعادة صورة الدولة، وسيكون البشرى بالمباشرة في إعادة بنائها.[ [ [<الفتنة> لم تكن في أي يوم، محلية، ولا هي كذلك اليوم… حتى لو كانت <لبنانية> أطرافها مؤكدة بالصورة والصوت وتذكرة الهوية!الساحة محلية، لكن للفتنة <آباء> كثيرين…والفتنة استثمار مجز لأصحاب المصلحة السياسية فيها: يمولونها بحفنة من الدولارات ثم يجنون من عوائدها الكثير من أغراضهم وأهدافهم السياسية، في داخل دولهم، أو في الدول المستهدفة!ضحية الفتنة، دائماً، هو الطرف أو الأطراف الأقوى…فالأقوى يتحاشى الفتنة، ويحاول جاهداً أن يمنعها، أو أن يتورّط فيها، لأنه يعرف أنها تضرب الإجماع أو شبه الإجماع من حوله، وتنزله من موقعه السامي الذي كان يجعله فوق الشبهات والأغراض إلى مستنقع المساومات السياسية بدماء الأهالي… أي مصدر قوته.والفتنة تفتح الأبواب على مصاريعها أمام الخارج بذرائع عديدة، تبدأ بادعاء حماية التنوع، مروراً بحماية النظام، وصولاً إلى حماية الأقليات الطائفية والمذهبية… وقد أضيفت ذريعة لبنانية جديدة هي: حماية الأكثريات!وبطبيعة الحال فإن الوطن، ودولته أساساً، يكون الضحية الأولى. فالفتنة تضرب <الدولة> في مرتكز وجودها: الوحدة الوطنية…ثم أنها تعيد الشعب إلى مكوّناته الأولية: طوائف ومذاهب، فقبائل وعشائر وحامولات وعائلات وصعاليك، يتصارعون جميعاً على سلطة لا سلطة لها في دولة مفككة، يفرض <الأقدر> من بينها هيمنته على ما يستطيع <مصادرته> بالقوة منها.وها أن للبنان الآن رئيساً للجمهورية انتخب بما يشبه الإجماع، لكن الأطراف جميعاً يتصرفون وكأن <الجمهورية> إلى انهيار، ويهيئ كل طرف نفسه لوراثة بعضها، أو أن الأطراف الأقوى يتفاوضون بالنار على تقاسمها غنائم حرب…ثم أن <اتفاق الدوحة> الشهير الذي اغتال أخطر ثوابت <اتفاق الطائف>، قد أنجب للبنانيين توافقاً على انتخاب رئيس للجمهورية، فوراً، وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، يتعذر حتى هذه اللحظة تحديد موعد جدي لولادتها التي تتعسر، ساعة بعد ساعة… وبالتالي يكاد ينفي <الوحدة الوطنية> ذاتها!على أن ثمة مرشحاً اختارته الأكثرية النيابية لرئاسة الحكومة. وبالتالي فإن لدينا رئيساً مفترضاً لحكومة يصعب، حتى هذه اللحظة، تحديد موعد جدي لولادتها، وتوزع الحقائب فيها… وبالتالي فليس لدينا حكومة، حتى إشعار آخر.أما المجلس النيابي المعطل في انتظار التوافق على الحكومة المستحيلة (!!) فيبدو أن رئيسه قد احترف أن يقوم مقامه، بينما يتوزع العديد من النواب المتفرغين للكلام على الفضائيات المحلية والعربية، وعلى المنابر المحلية، يهددون بالفتنة أو ينذرون بها أو يحذرون منها… وهم يتنافسون على القيام بدور الإطفائي في إخمادها، بعد إشعالها!![ [ [رئيس للجمهورية، والجمهورية قيد التأسيس مجدداً،ورئيس مكلف بتشكيل الحكومة، ولا حكومة في المدى المنظور،وفتن متنقلة بين المناطق التي كان أهاليها يعيشون متآخين، تشدهم الوطنية برباط وثيق، والتي باتت اليوم <جبهات> يتربص أهالي أحيائها أو قراها بعضهم بالبعض الآخر خلف <خطوط تماس> مستجدة، تستنزف الجيش الممنوع عليه أن يحسم بالقوة، لخطورة الوضع الذي لا بد سيصل إلى قلب هذه المؤسسة المنهكة بتكليفها مهمات تتجاوز قدراتها فضلاً عن أنها تجافي طبيعتها، إذ تحولها إلى <قوات فصل> بين الأخوة الذين صاروا ينظرون إلى بعضهم كأعداء… أوليس العسكريون، بدورهم أبناء هذا الشعب الواحد الذي يأخذه الانقسام بالفتنة إلى حد الاقتتال؟!وليست مهمة الجيش أن <ينظم> وقف إطلاق النار بين أهله،ولا مهمته بطبيعة الحال أن يقوم بمهام الدولة جميعاً، رئيساً وحكومة ومجلساً نيابياً ومؤسسات وإدارت… وصولاً إلى دور <شيخ الصلح> بين المدفوعين إلى الفتنة بينما من يدفع لإشعالها أقوى منه بما لا يقاس.[ [ [مسكين هذا الطوباوي الأب يعقوب الحداد الكبوشي الذي سيرسم قديساً، باسم لبنان، خلال أيام…وشكراً له، في أي حال، فقد أعطانا <صورة جامعة> للمتفرقين في السياسة إلى حد الخصومة…لكنها، مع الأسف، ليست صورة لواقعنا الذي لا مكان فيه لا للأبطال ولا للقديسين… ولا طبعاً <للدولة> التي نتفرج على صور إنجازاتها في أمكنة أخرى قريبة وبعيدة، في حين لا نمل من ممارسة هواية تفكيــكها وإعادة بنائها، مرة كل عشــر سنوات!وننسى أن <الزمن> ليس خادماً يعمل بالأجر عندنا!… ثم إنها في كل مرة جديدة تكون أضعف مما كانت… من قبل! في حين تتبدى الفتنة أقوى منها وعليها، هذه المرة! بشهادة أن الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، والعلمانية إجمالاً، تتهاوى، وتكاد تفقد دورها الريادي في مجتمعنا… وتكفي الإشارة إلى موقع مهرجان الحزب الشيوعي أمس، في خريطة الفتن النقالة من شمال البلاد إلى بقاعها، مع استذكار ما يُراد لبيروت وفيها ومنها.

Exit mobile version