طلال سلمان

قتلة متاحف مكتبات يعلمون ديموقراطية

اختار صدام حسين »وريثه« في حكم العراق… وها هو »الوريث« يباشر مهامه من حيث انتهى »سلفه«، شاكراً له أنه قد سهّل عليه »الإنجاز« بأكثر ممّا قدر أو تصوّر.
لم يكن قد بقي في العراق أو منه إلا الذاكرة الوطنية الجماعية ممثلة بالمتحف الذي يعد بين الأغنى بكنوز التراث الممثل فجر الحضارة الإنسانية، وإلا المكتبة الوطنية في بغداد، التي تحفظ كل ما أبدعه العرب أو ترجموه أو اقتبسوه فأضافوا إليه وأغنوه في أيام مجدهم السالفة يوم كانت بغداد »دار الحكمة« للعالمين، مشرقاً ومغرباً في العالم القديم الذي لا يحبه الأميركيون..
ولقد أنجز الاحتلال الأميركي، وبسرعة قياسية، تدمير الذاكرة الجماعية ليس للعراقيين وحدهم وليس للعرب كلهم على اختلاف منابتهم الفكرية والدينية، بل وللمسلمين جميعاً حين كانت بغداد عاصمة »الامبراطورية العظمى« في زمنها، تصب فيها كل روافد الفكر والعلم والثقافة الإنسانية فتنتج إضافات نوعية باهرة للحركة الفكرية في العالم.
بأيام قليلة من »الفوضى الدموية« المنظمة »بأمر عمليات« صادر عن قيادة الاحتلال الأميركي، تمّ »نهب« موجودات أحد أغنى المتاحف في العالم بموروثات الحضارة الإنسانية منذ فجرها الأول، قبل ستة آلاف سنة أو يزيد.
… وتمّ، أيضاً، إحراق دار الكتب الوطنية في بغداد، بكل محفوظاتها النادرة، والتي لا شبيه لها ولا معوّض عنها، بمخطوطاتها النادرة، وبينها »المقدس« لارتباطه بالأديان ورسلها ورجالاتها العظام، و»النسخة اليتيمة« من أمهات المؤلفات التي تبقت بعد عمليات الغزو والتدمير المنظم التي تمت على أيدي الاحتلال المغولي بقيادة هولاكو، قبل ثمانمئة سنة تقريباً.
… وتمّ أيضاً وأيضاً إحراق مخزونات السجل العقاري الحافظة لحقوق الناس في ملكياتهم.
كل تلك كانت مقدمات الانتقال من عهد الدكتاتورية الطاغية، الباغية، إلى عهد »إعداد شعب العراق للديموقراطية« وتدريبه عليها بفترة انتقالية لم يستطع »رسول الديموقراطية الأميركية« تحديد مدتها، وإنما تركها مفتوحة.
لقد دمّر صدام حسين المؤسسات السياسية والاجتماعية، من أحزاب وتنظيمات وقوى سياسية وهيئات المجتمع المدني، وحصر العراق بشخصه حتى بات وكأنه »الممثل الأوحد« لشعب العراق العظيم: فهو الضابط الأول، المهندس الأول، الطبيب الأول، المدرّس الأول، الشاعر الأول، الروائي الأول، والمنظم المدني الأول… الخ.
… وها هو رسول التحضير الأميركي للعراق يجد مهمته في غاية السهولة إذ يمكنه أن يبدأ من الصفر في مختلف المجالات.
وبالتأكيد فهو لن ينسى لمورثه صدام حسين فضله في تحويل دوره العتيد في العراق من »مهمة مستحيلة« الى ما يشبه »المطلب الشعبي« أو فلنقل إلى »العرض الذي لا يمكن رفضه« بإعادة الدورة الدموية إلى الجسد العراقي الذي نزف دمه وحيويته وقدرته على المقاومة حتى بات بحاجة إلى من يوفر له الخبز والدواء إضافة إلى الكهرباء والمياه الصالحة للشرب ومن يضمن له دورة حياة يومية طبيعية!
على هذا فقد امكن للجنرال الأميركي صهيوني الهوى (والمصالح) جاي غارنر ان يقول مع دخوله بغداد في ثوب المنقذ من الفوضى، القادر على إحياء محطات توليد الكهرباء وضخ مياه الشفة ونزح مياه الصرف الصحي، وإعادة تجهيز المستشفيات وغير ذلك من المنشآت الحيوية التي دمرتها الصواريخ الأميركية والقذائف الأميركية، ما مفاده: »هل هناك يوم أفضل في حياتك من ان تتمكن من مساعدة الآخرين؟! هذا ما ننوي عمله!!«.
هو، طبعاً، اختار ان يزور المستشفى الوحيد الذي لم تدمره طائرات الاحتلال، وتجنب ان يزور المستشفيات الأخرى التي نُهبت بعد تدميرها، والقي بالجرحى والمرضى المحتشدين فيها أرضاً، خلال »الفوضى المنظمة« التي اديرت بأمر عمليات أميركي لا يمكن دحضه بشهادة وزارة النفط التي حرستها دبابات الاحتلال ورجال المارينز الأقوى من.. الموت!
وللتدليل على ايمانه العميق بالديموقراطية فلقد سمح الجنرال الأميركي المتقاعد الآتي ليكون »الحاكم الإداري« لعراق المستقبل، بأصوات احتجاج، وببعض تظاهرات الاعتراض، ليمكنه بالتالي ان يؤكد بعدها: »ما نريد ان نفعله من اليوم هو استيلاد نظام جديد في العراق، الأمر يبدأ بأن نعمل معاً، لكن العمل صعب ويستغرق وقتاً. سنساعدكم ما دمتم تريدوننا«.
انها جمل منتقاة من القاموس الاستعماري الحافل بالاستعارات والتشابيه التي تتقصد »أنسنة« الاحتلال فضلاً عن محاولة تصويره بأنه مطلب المحتلة أرضه المقهورة ارادته.
***
اختار صدام حسين وريثه: جنرال الانتصار المجاني تومي فرانكس وموفده ليكون الحاكم الإداري باسم الاحتلال الأميركي الجنرال المتقاعد جاي غارنر، الذي يعتبره الإسرائيليون »على يمين« السفاح أرييل شارون، والذي يرفض الحديث عن الفلسطينيين إلا كإرهابيين..
وعلى سيرة الإرهاب فلا بد من »حاشية« مقتضبة:
حين أقدم بعض المتعصبين أو المهووسين بتفجير برجي نيويورك، استنكر العرب جميعاً، شعوباً ومنظمات وحكاماً، هذا الاعتداء الفظيع، ولم يتردد أحد في وصفه بأنه اختيار خاطئ
للهدف الخاطئ، في الزمان والمكان، وبالتالي فهو »إرهاب« لا يقبله منطق أو عقل ويرفضه أشد المقاومين ضد الامبريالية الأميركية.
لم يقبل أحد بين العرب هذه الجريمة التي أودت بحياة أكثر من ثلاثة آلاف مواطن أميركي، بينهم بعض الرعايا العرب أو من اصل عربي..
لكن أحداً لم يهتم، مع العدوان الأميركي على العراق، بضحايا إرهاب الدولة العظمى المنظم جداً، والمعلن مسبقاً، والذي رافقته كاميرات الفضائيات والأرضيات وواكبه حشد من رجال الاعلام زاد على خمسمئة صحافي، بين محرر ومصور.
وحتى اليوم لا أحد، خارج قمة الإدارة الأميركية وجنرالاتها، يعرف عدد القتلى العراقيين من عسكريين ومدنيين، في عدوان علني مكشوف على »دولة مستقلة«، وإن كانت التقديرات المستندة الى تسريبات أميركية تصل به إلى حدود الأربعين ألف قتيل، عدا عشرات ألوف الجرحى، وألوف المعتقلين في معسكرات أقيمت على عجل وبدأ »شحن« المشتبه بهم لحجزهم فيها تحت حراسة بنادق المحتلين.
ومع أن الاحتلال يأتي نتيجة لحرب فرضها الأقوى، ومن أجل تحقيق أهدافه الاستراتيجية في الهيمنة على العالم، عبر السيطرة على منابع النفط، وإقامة »زنار« من القواعد العسكرية في مختلف الجهات لتأمين هذه الهيمنة وإخضاع كل المعترضين الحاليين أو المحتملين، فإن توصيف ما قامت به قوات الاحتلال قد يتجاوز في بعض جوانبه كل التعريفات المتداولة للإرهاب.
مع ذلك، فما زالت الإدارة الأميركية تطارد أي معترض على عدوانها ومن ثم على احتلالها »دولة مستقلة وذات سيادة« اسمها العراق، خارج إطار الشرعية الدولية، بل وبتحد مكشوف لمجلس الأمن الدولي وللرأي العام العالمي، باتهامه ب»الإرهاب«، ممارسة أو تشجيعا أو إيواء لمن يمارسه.
الجنرال المتقاعد الآتي ليتولى حكم العراق بالاحتلال هو المحرر، معلم الديموقراطية، باني العراق الحديث.
أما الفتى الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال الإسرائيلي بدمه فهو »الإرهابي«،
وكذلك من يؤيد هذا الفتى الفلسطيني، ولو بالموقف، »إرهابي«.
أما من يلتفت إلى شعب العراق بالتضامن أو بالمساندة، ولو في مواجهة مخاطر الجوع والأمراض المعدية، فهو »مساند للإرهاب«، أو انه »يتدخل في ما لا يعنيه«، فالعراق من اختصاص الاحتلال الأميركي بقدر ما هي فلسطين من اختصاص الاحتلال الإسرائيلي، والعصا لمن عصى وهي هنا أميركية إسرائيلية، أفضل من يمثلها هذا الجنرال الأميركي المتقاعد المتطرف في صهيونيته الآتي لحكم العراق وتحضيره وتعليمه الديموقراطية: جاي غارنر..
… وثمة الكثير من الجنرالات الأميركيين المتقاعدين المستعدين لتقديم خبراتهم الديموقراطية في تحضير الشعوب المتخلفة من حول العراق!

Exit mobile version