طلال سلمان

قبل تظاهرة وبعدها تدويل محلي في بلد بلا داخل

عاد لبنان، أو أعيد، إلى الدائرة الجهنمية للعبة الأمم، عبر تدويل محلياته، من قبل »التمديد« ثم عبر التمزقات التي أحدثها في بنيته السياسية المتهالكة، هذا الحدث الاستثنائي بمبرراته ثم بنتائجه التي تجاوزت كل حساب.
عاد هذا »البلد البلا داخل«، والتي كانت دولته وما تزال وستبقى إلى زمن آخر »قيد التأسيس«، إلى دائرة الصراع الذي انفتحت أبوابه على مصاريعها بذريعة التمديد.. في حين أسبابه الفعلية تتجاوز كل ما هو محلي إلى الأفق العربي في ظل التطور الخطير المتمثل بالاحتلال الأميركي للعراق كخطوة حاسمة في السيطرة على المنطقة بكاملها والتحكّم بحاضرها ومستقبلها بالشراكة الكاملة مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وجهده الدؤوب لمحوها عن الخريطة.
ولقد كانت »الديموقراطية« دائماً باباً فسيحاً لدخول أو لاشتباك أطراف الصراع جميعاً في الحرب حول الموقع والهوية وحقوق أو امتيازات الطوائف في النظام.
ففي لبنان، كما في أي كيان يقوم على »تسوية سياسية«، يكون النظام شرط وجود »الدولة«، فإذا ما اهتز النظام أو حاول أهله تبديله انفجرت الحرب بين »الدول« التي كان توافقها شرطاً لقيام هذا الكيان بهذا النظام تحديداً، وعلى قاعدة صارمة للتوازن بين »رعاياه« الممنوعين من أن يكونوا مواطنين، لأن المواطنة تعني التساوي في الحقوق والواجبات، وهذا يلغي الامتيازات الحامية للطوائف، ويُسقط الاستثناء التي استوجب ابتداع هذا الكيان ومن ثم نظامه.
المعادلة هي هي دائماً: الكيان بنظامه الطوائفي أو.. الحرب الأهلية!
وهكذا فإن »الديموقراطية« المستولدة خصيصاً للنظام اللبناني هي غيرها في أي بلد آخر، بل غيرها في أي مفهوم أكاديمي أو في أي ممارسة سياسية.
ولا مرة أمكن الوصول إلى صيغة سوية، لأن قيام الدولة يستوجب إلغاء الطوائفيات أو التخفيف من حساسيتها المعطِّلة التي إذا ما استثارها صراع المصالح، على الداخل أو في الداخل المفتوح دائما على الخارج، حوّلت »الدولة« إلى مجموعة من الإقطاعيات أو الإمارات الطائفية أو المذهبية.
ولا مرة كان للديموقراطية مثلاً مفهوم محدد، مسلّم به ومتفق عليه بين اللبنانيين.
مرة توضع الديموقراطية في وجه المساواة، بين اللبنانيين ودائماً توضع في وجه العدالة الاجتماعية، ودائماً تصوّر وكأنها نقيض العروبة أو أن العروبة أي هوية الأرض والناس هي لاغية بالضرورة للديموقراطية.
… ودائماً توضع مصلحة »النظام« في وجه احتمال قيام »الدولة« بمفهومها البسيط، قديماً وحديثاً وإلى دهر الداهرين.
لكأن هذا النظام يحمل في حيثيات وجوده أسباب عجزه وقصوره عن تلبية احتياجات »رعاياه« الممنوعين من أن يكونوا مواطنين، والممنوعة »مجاميعهم« من أن تكون »شعباً«.
فالنظام يعامل »شعبه الواحد«، دائماً، على أنه شعوب عدة: لا الأرض تجمعها، على اجتماعها فيها، ولا الديموقراطية توحدها، على رغبة الجميع فيها أو مناداتهم بها، حتى لو كان لكل طرف مفهومه الخاص للديموقراطية، ولا مجال في هذه الحال للشعور الوطني الموحِّد الذي يستوجب بداهة وجود وطن لا »متصرفية« تصرَّف الغير في ابتداعها كنتيجة لصراع المصالح بين أطرافه.
وكثيراً ما بدا وكأن النظام لا علاقة له بالأرض، أو أنه لا يهتم بمساحتها، حتى حين تغنى بعض رموزه الأكثر طائفية والأكثر ارتباطاً بالاحتلال، بال10452 كلم2.
لا يحتاج النظام إلى أرض بمساحة محددة. التوازنات الدولية تحكمها المصالح لا العواطف، والوطنية غالباً ما تكون الشهيد الأول لهذه التوازنات ومصالحها التي لا تعترف بالحدود.
وبالنسبة إلى لبنان فكثيراً ما تبدى وكأن نظامه يمكن أن يعيش بلا أرض.. فالتوافق الدولي على وجوده، والتسليم العربي بصيغة الحكم فيه، يجعلان الأرض مجرد مساحة ذهنية للعلم والنشيد والألقاب التي لا تعني فعلياً ما ترمز إليه: صاحب الفخامة، صاحب الدولة وقد صار مشاعاً صاحب المعالي، صاحب السعادة، إلخ..
أما الألقاب الأخرى من صاحب النيافة، إلى صاحب السماحة، إلى صاحب السيادة، إلى صاحب الفضيلة إلخ.. فلها دائماً الحصانة، بغض النظر عن شخص حاملها وكفاءته ومنزلته في »قومه«!
وفي »الداخل الجغرافي«، فقد دأب الحكام من أهل النظام على التعامل مع »الجهات الأربع« على أنها أطراف في ائتلاف اضطراري أكثر منها أعضاء جسم واحد، برأس واحدة وسياسة واحدة وهوية محددة ودور يبرّر وجود هذا التقسيم الذي يفرضه التوازن الطائفي في النظام »العلماني«.
ولعل النقاش المفتوح الآن كما انفتح مراراً من قبل، حول قانون الانتخابات يكشف بعض الأمراض القاتلة للديموقراطية في هذا النظام الذي يتحول مع أي عملية اقتراع إلى قلعة طائفية هائلة التحصين بما يحوّل أي »فدائي« يحاول اقتحامها بشعارات الديموقراطية إلى »إرهابي« يريد تدمير النظام والوحدة الوطنية.
* * *
أين الحد الفاصل بين الاعتراض على التمديد والاعتراض على التدويل؟
أين الحد الفاصل بين »النظام الديموقراطي« في لبنان والديموقراطية، بين الكيان والدولة التي تبدو أضعف الأطراف في هذا الصراع الدولي؟!
إن المعادلة غريبة نوعاً ما: فالاعتراض على التدخل السوري هو الديموقراطية مصفّاة، أما الاعتراض على التدخل الدولي فهو قهر وقسر وفرض وتبعية وخروج على الوطن (؟) والوطنية.
قد لا يكون »الشارع« أفضل مكان لممارسة الديموقراطية أو للتعبير عنها، ولكن هو كذلك في الحالتين، وليس من حق طرف أن يمنعه عن الطرف الآخر لأن الأول هو »المعارض« بينما الثاني هو »الحاكم« أو هو شريك في الحكم.
لكن المسألة ليست في »الشارع« ولن يحسمها حجم هذه التظاهرة أو تلك.
و»التظاهرة« ليست إلا مناسبة لانكشاف العيوب البنيوية في النظام ودولته، التي إذا كانت »معنا« فهي الديموقراطية مصفّاة، وإذا كانت في »الجهة الأخرى« فهي الدكتاتورية والقمع والكبت والقهر واضطهاد الأقليات.
والتظاهرات أعجز من أن تصحح النظام، وأن تحول الكيان إلى دولة والطائفية إلى ديموقراطية.

Exit mobile version