طلال سلمان

قائم مقام دولة

تم تفريغ لبنان من «السياسة». صارت حياته السياسية قنابل من الأحقاد المتفجرة بالفتنة تتوسل أجهزة الإعلام، مرئية بالدرجة الأولى، ثم مكتوبة ومعززة بالمواقع الالكترونية وسائر وسائل التواصل الحديثة، فضلاً عن مؤتمرات صحافية بلا مناسبة ولا موضوع إلا التحديات والعنتريات على طريقة «قوالي الزجل» من دون إبداعهم الشعري وطرافتهم.
صار لبنان «مسألة أمنية»،
توارى أهل الحكم المعطلة أدوارهم بالعجز خلف التصريحات الأشبه بالمواعظ والنصائح الأبوية والتي تنضح بلهجة اعتذار تهدد الدولة في وجودها، لغياب من يؤكد حضورها.
تراجع أهل المال والاقتصاد عن طلب السلطة لأنهم وجدوا ان حملها أثقل من قدرتهم على مواجهة مطالب الناس، وما أكثرها.. مطمئنين إلى ان أموالهم محمية بأفضال «مصرف لبنان» وحاكمه المثقل بأعبائه التي تبرع بحملها حتى لا تنهار العملة ومعها الحكم ووحدة الشعب وهيكل الدولة!
وبرغم أن محترفي السياسة بالتصريحات المسمومة والحملات المحمومة ذات النبرة الطائفية والمذهبية على «خصومهم» الذين يكادون يكونون «حلفاءهم» موضوعياً، إذ ان كل فريق يعيش ما عاش الفريق الآخر، فمتى توارى «الخصم» أو ضعف انتفت الحاجة إلى «غريمه ـ حليفه».
صار الجيش هو «المرجعية الأولى» في البلاد، ليس بدوره الأمني على مستوى الوطن كله فحسب، بل بدوره «السياسي» بوصفه المؤسسة الوطنية الكلية، بحكم مسؤولياته العسكرية والأمنية؛ ونتيجة لتسليم «الإخوة ـ الأعداء» جميعاً بحيدة قيادته ونزاهتها ممثلة بالعماد جان قهوجي، فضلاً عن فعاليته كقوة ضاربة وخطوطه المفتوحة مع جميعهم، خصوصاً أنهم يحتاجون إلى حمايته الدائمة… وإن كان هذا كله لا يمنعهم من الهجوم عليه، بقيادته وأجهزته، بين الحين والآخر، ليظهروا وكأنهم أصحاب الأمر. صار الجيش مطالباً بالمطاردات والمصالحات، بالحمايات والإغاثة أحياناً، وحفظ العلاقات مع «الدول» باعتباره المرجعية الشرعية الأساسية في غياب الرموز الرسميين للدولة،
وصارت المديرية العامة للأمن العام بقيادتها ذات الحضور والمبادرات التي تتجاوز حدود الوطن الصغير حاصل جمع بعض مهام وزارة الداخلية وبعض مهام وزارة الخارجية، وكذلك الأمر مع وزارة العمل ووزارة الشؤون الاجتماعية بل وبعض اختصاصات الرئاسات في ما يتصل بالعلاقات بين الدول، قريبها والبعيد، بالاضطرار وليس بالرغبة، ولأسباب وطنية وليس بدافع البروز أو «الاستيلاء» على أدوار الغير، مؤسسات رسمية أو مواقع مسؤولة (نظرياً).
بل ان المديرية العامة للأمن العام في عهدها الجديد برئاسة اللواء عباس ابراهيم قد ملأت فراغاً خطيراً، في ظل شلل مؤسسات الحكم، فصارت جسر التواصل بين «الداخل» و«الداخل» نتيجة «القطيعة» بين «الداخليْن» أو «الدواخل» والتي تعطل المجلس النيابي وتعلق الوضع الحكومي بين حكومة مستقيلة لا تستقيل بذريعة انها «مسؤولة» ولا يمكنها ان ترمي لبنان في الفراغ، وبين مشروع حكومة تم تكليف المرشح لرئاستها، ثم دُفع به إلى حقل من الألغام لا يمكن تفكيكه إلا بتدخل عربي ـ دولي مؤثر، ليس في الجو ما يوحي بإنجازه في القريب العاجل.
ولقد أمكن بفضل دور هاتين المؤسستين حماية أسس العلاقة مع سوريا، كدولة شقيقة بشعبها الذي يعيش محنة مدمرة، وكذلك تأمين لبنان في وجه المخاطر التي كان لا بد ان يتعرض لها، وهو قد دفع بالفعل ثمناً غالياً من دماء أبنائه ومن شروط استقراره، وذلك عبر العمليات الإرهابية التي استهدفت مواطنيه، بالرجال والنساء والأطفال، بالمساجد والمدارس والمؤسسات العامة والخاصة…
وإذا كان إطلاق سراح «الحجاج» الذين كانت العصابات المسلحة التي استولدها مشروع الحرب الأهلية في سوريا، والتي انخرطت فيها دول كثيرة طليعتها عربية وكذلك صناديق تمويلها بالمال دائماً وبالرجال غالباً، قد شكل إنجازاً ممتازاً لوزير الداخلية، بشخصه، وللمدير العام للأمن العام بدأبه على المتابعة وعلى صياغة الاقتراحات والإفادة من التناقضات أو التقاطعات في المصالح بين بعض الدول العربية وتركيا، فإن هذا الإنجاز «الخارجي» قد حمى الداخل، سياسياً بالدرجة الأولى، إذ جنبه فتنة مدبرة لا يتعب معدوها والمستفيدون منها من النفخ في نارها.
ولقد منح هذا الإنجاز الأمني بأبعاده السياسية ودلالاته الوطنية الجامعة والتي استحضرت الدولة من غيبوبتها، اللبنانيين ساعة فرح نادرة في هذا الزمن الأغبر..
لكن الأمن وحده لا يحمي الوطن ولا يصنع دولة في ظل الخلافات التي تستثمر الطائفية في السياسة، وتستعين بالخارج على الداخل، تحت ظلال رايات السيادة والاستقلال، وتعطل الحكم بالحكومة والمجلس النيابي والإدارة تحت ادّعاءات الديموقراطية والقرار الحر..
إن الطبقة السياسية تتحمل مسؤولية خطر مصيري داهم يهدد لبنان في دولته، ويهدد شعبه في وحدته.
ولا يمكن للجيش والأمن العام أن يقوما مقام الدولة.
وعسى ينفع الجيش والأمن العام في حماية الوطن والدولة من «أهلها»، أما سائر «الأعداء» فإن وعي اللبنانيين الذين طالما اكتووا بنار الفتنة كفيل بكشفهم وإن عجز عن محاسبتهم، أقله في المدى المنظور.. وما أطول هذا المدى!

Exit mobile version