طلال سلمان

في وصف الديموقراطية اللبنانية

(انطباعات عن افتتاح المجلس النيابي الجديد)
في الطريق الى جزيرة الديموقراطية كان على الجميع ان يسبح في بحر سوليدير، ويسبح بحمده تعالى.
من لا يعرف السباحة المالية لا يصل: الديموقراطية بعيدة المنال، والممر إليها الآن »اجباري«.
اختفت »النجمة« التي كانت هذه ساحتها، لكن »ساعة العبد« عادت لتدق من جديد معلنة عن انبعاث طائر الفينيق، مجدداً، ولو عبر المحاكم والدعاوى والشيكات البلا رصيد التي التي دفعت لاستيلاده الاحتفالي مؤخراً!!
المباني المجاورة والتي لم ترمم بعد تشهد على ماضٍ تليد ببقايا الاسماء التي تحملها في صدرها، بينما تحمل بواباتها المفتوحة على الفراغ اسماء الذين »اقتحموها«، ذات يوم، ليطردوا منها الماضي فاتحين الطريق للتغيير: كتيبة الشهيد… فصيل الشهيد ابو…
المطر يغسل الطريق لكي تصل الديموقراطية نظيفة.
يتوافد ممثلو الشعب عبر الحواجز العديدة التي تفصلهم عنه.
كل الاجهزة تشارك في حراسة الديموقراطية ومعها »الرئيسان« وممثل الولايات المتحدة الاميركية: الجيش، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، أمن الدولة، المخابرات واجهزة الاستقصاء، اضافة إلى »الأمن الذاتي« الذي وحده يدخل الطمأنينة إلى قلوب »المستهدفين« من قبل اعداء الديموقراطية.
حتى »فوج الاطفاء« كان هناك: الحيطة واجبة، لعل بعض المندسين أشعل النار في الثوب الرقيق للديموقراطية السريعة الالتهاب؟!
المشهد تاريخي بوقاره الصناعي.
والبقعة تاريخية بالآثار التي اكتشفت تحتها ومن حولها.
وها هي الآن تكتمل بهذا الانجاز المعاصر الذي جعل الديموقراطية أثراً بعد عين، كما تقول العرب، وبكلفة أعلى من اي تقدير.
»بيروت« نقش قالب مصطنع حديثاً على حجر من الاسمنت: مدينة عريقة لمستقبل… مجهول.
مع ذلك فهي لا تزال تنبض بحلم التجدد والغد الأفضل.
***
أدخلونا فأجلسونا على مقاعد »الشياطين الخرس«، في الشرفة المطلة عليهم، جنباً إلى جنب مع »الشهود« الذين يرون ولا يرون من رجال السلك الدبلوماسي.
كانت القاعة فارغة، بعد، إلا من مقاعدها، تنتظر قدوم الديموقراطية.
حدوة حصان، وفي مقابلها ،وأعلى كعباً، مقاعد الحكومة، وفي »القمة«، فوق رأس الحكومة العديد عديدها: الرئيس.
القبة عالية جداً، وفي صدر القاعة اللوحة الالكترونية بأسماء الممثلين: قديمهم بحرف صغير ولامع، وجديدهم بحرف أكبر وباهت… أما الخلفية فمن الزجاج الملون المرشوم ببعض الخطوط المقطعة للتزيين.
اخذ النواب يتوافدون، وفي الطليعة منهم الجدد. اتجه القدامى إلى مقاعدهم المحفوظة، ودار »المستجدون« يبحثون عن مواقعهم، بينما بعث »القادرون« بالسكرتيرين لاستكشاف الموقع والجيرة والاطمئنان إلى الصدارة: مباشرة مقابل عدسات المصورين.
لم يأت الكل على أقوالهم. بعضهم يتصرف وكأنه أسقط، للتو، من المظلة فوق المقعد، وبعضهم استنبت في القاعة ذاتها بلا مجهود.
قلة اولئك الذين يرون انهم هنا بصورة شرعية.
تعلو الهمهمة مع ارتفاع ارقام الثروة للداخلين من ممثلي الارادة الشعبية، حتى اذا وصل الاعظم غنى ضجت القاعة بالرنين الذهبي…
عدد الملتحين ملحوظ، وان لم يكونوا جميعاً من الاصوليين، وثمة عمامة سوداء واحدة، وفي الديموقراطية السابقة كانت تحيط بها عمامتان بيضاوان.
رجال الأعمال كثر، مع ان سوق البطالة هي الرائجة في البلاد المسكونة بالفضيحة.
والحزبيون عديدون، لكن الأحزاب غائبة في انتظار ربيعها الثاني.
بين النواب الجدد من يدخل بعدما استوقف طويلاً عند العتبة، فلما جاءه الاذن كان كمن قال فيه الأخطل الصغير: »أيوم اصبحت لا شمسي ولا قمري«؟!
ولكن، ليس للعز موعد، المهم أن يصل ولو عشية الرحيل. الموت في عز يفضل حياة طويلة في غيابه.
***
اكتمل النصاب. آن للمطرقة ان تتكلم.
البداية: الوقوف دقيقة صمت. للمتوفي اسماء كثيرة.
رئيس السن يلجأ إلى مواطنه جبران خليل جبران الذي مات كمداً، مع انه لم يشهد مثل ما شهدنا. لعل »النبي« كان قد ابلغه مسبقا. لعله قد انذره فكسر اجنحته ودخل جنة الصمت الأبدي.
الكلمات كبيرة، تدوي في سماء القاعة فتحجب صوت »طرقعة« المسابح المتناثرة في ايد عديدة، لكنها لا تستحضر المعاني الغائبة كالحرية والاستقلال والسيادة والكرامة والعنفوان والتحرير ودولة المؤسسات والارادة الشعبية. الكلام لا يعوض الغياب.
يتجول الضجر في القاعة ثم يرقى الشرفات فيلاقيه التثاؤب: المسرحية قديمة، مكررة ومعادة، لا تشويق فيها ولا اثارة. كثيرون »تعلموا الذوق من الرؤوس المعلقة فوق«.
الكل يتفرج على الكل: من فوق إلى تحت، من تحت إلى فوق، من فوق إلى فوق، من تحت إلى تحت، من اليمين إلى الشمال، من الشمال إلى اليمين ثم بالورب.
اوحى الصمت بضرورة التصفيق. صفق المنتبه، واستدرك الغافل متأخراً.
دارت الصندوقة لتأتي بالأوراق التي لا سر فيها. امتلأت بالاسم الأوحد.
نزل رئيس السن درجتين فصار وزيراً، صعد الاسم الأوحد بضع درجات فاستأنف رئاسته التي انقطع عنها شكلاً ولم تنقطع عنه حتى في الشكل والموكب والجهاز اليقظ.
ران الصمت، وارتفع الصوت الجهوري ببرنامج حكم لبلد آخر.
لا يمكن أن يكون هذا الكلام عن هؤلاء الذين حكموا ويستعدون ليحكموا مجدداً من خارج هذا البرنامج، بل وبالخروج عليه.
لا حدود بين السلطات. فالكلام مشاع يغرف منه من يشاء، وفي أي موضوع.
يستحضر الكلام الدولة ثم تذهب مع ختامه.
في صف واحد جلس »قدامى المحاربين« من الذين استهلكوا الأحزاب »التاريخية« ثم لم يصلوا إلا من خارجها: كان هناك خريجو »القوات اللبنانية« و»أمل« وحزب البعث، و»الناصري«، وحركة القوميين العرب والتقدمي الاشتراكي والقومي السوري الخ…
تدور الصندوقة من جديد لتأتي بالأوراق التي لا سر ولا مفاجأة فيها. تدور مرة ثالثة فيصير الضجر نعاساً، ويغمض النعاس بعض العيون المسهدة.
آن أوان الانصراف: قوموا للتهنئة.
ينتظم الحضور طابوراً على باب الديموقراطية، يمطئنون إلى صمتها ثم ينصرفون مستبشرين بالعهد القديم المجدد ذاته.
في الخلف، تقف »المحدلة« وقد فرغت من مهمتها، وتخفق اعلام »الديموقراطية« بينما صفارات الانذار تدوي لفتح الطريق امام اصحاب دولة المؤسسات.
كانت السماء متجهمة، والغيم كثيفاً، لكن المطر كان قد توقف حتى لا يبلل احدث ما انتجته مصانع الديموقراطية مع غروب القرن العشرين.
خرج الجميع، واقفلت ابواب المبنى فتنفست الديموقراطية الصعداء.
أما »الشعب« فكان يدور في الشوارع المزدحمة، وفي الضواحي التي باتت علباً للسردين الحي، باحثاً عن اللقمة وعن الدواء وعمن يستدين منه ما يكمل به اقساط اولاده في المدارس، او ربما رسم التسجيل في المدرسة الرسمية التي اعاد إليها الافقار التلامذة الذين كانوا قد هجروها وهم يسعون الى الالتحاق بأصحاب الحظوظ.
برغم ذلك فالناس مستمرون في محاولة الوصول إلى انتزاع الاعتراف بهم.
والطريق إلى الديموقراطية طويل، والمهم ألا يتوه الناس عنه.
والآن هيا إلى المسرحية الثانية: حكومة الديموقراطية المجددة ذاتها.

 

لا تجلسوا فوقها الاحجار والخشبا

للمناسبة استذكر بعض الأصدقاء هذه الحكاية:
قبل نصف قرن تقريباً، في العام 1947 تحديداً، كان الحكم في لبنان يستعد لاجراء الانتخابات النيابية الاولى في العهد الاستقلالي،
كان الخلاف قد دب بين »بطلي الاستقلال« بشارة الخوري ورياض الصلح… وكان واضحاً ان رئيس الجمهورية يعمل للاتيان بمجلس يؤمن له تجديد ولايته، وبالتزوير اذا لزم الامر.
في تلك الفترة بالذات كان امير الشعراء احمد شوقي مدعواً لحضور مناسبة أدبية في بيروت، فطلب رياض الصلح من الشاعر صلاح لبكي ان يستقبله ويهتم به ويشرح له الوضع السياسي مع التركيز على الانتخابات واحتمالات التزوير فيها، بحيث يضمن قصيدته بيتاً او ابياتاً عن التزوير والمزورين.
وصل احمد شوقي واستقبله صلاح لبكي واحاط به ورافقه في كل زياراته، وحدثه مطولاً عن السياسة في لبنان والانتخابات والنيابات والتزوير، فلم يلق الصدى الذي يتوقعه.
كان رياض الصلح يطارد صلاح لبكي، وصلاح يطارد شوقي، وشوقي لا يظهر استجابة او اهتماماً بانتخابات سوف تجري وبتزوير محتمل ،لكنه لم يقع.
وجاء يوم الاحتفال، وكان مقرراً في صالة الباريزيانا (في ساحة الشهداء التي لحقت بأصحابها…).
كان احمد شوقي قد ارسل قصيدته، وكلف »شاعر الأرز« حليم دموس بألقائها، ولم يكن فيها اية اشارة عن الانتخابات.
واسقط في يد صلاح لبكي، ومن ثم رياض الصلح… ولكن ما كان من سبيل لارغام امير الشعراء على ان »يقول« ما يطلبانه.
فجأة، وقبل ان يرتقي حليم دموس المنبر لالقاء قصيدة شوقي، وصلت منه وريقة تضيف بيتاً تجاوز الغاية المطلوبة منه. كان »البيت« يقول:
دار النيابة قد صفت أرائكها
لا تجلسوا فوقها الاحجار والخشبا
علا التصفيق والهتاف، وطلب الجمهور اعادة البيت فأعيد ثانية وثالثة، وحمله كل من حضر إلى أهله، حتى بات لبنان كله لا يتعب من ترداده.
والتقى رياض الصلح أمير الشعراء محيياً ومهنئاً، وقال له في جملة ما قال:
لقد وفرت علينا. بشعرك ثلاثة أشهر من الاضرابات، فشكراً.
أين شوقي اليوم ينظم شعراً في »محدلة« الديموقراطية؟!

 

من اقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس قراراً مرجأ التنفيذ، وليس أمراً فورياً يهبط عليك من علٍ فلا تملك حياله إلا الانصياع لموجباته القاهرة.
لم افهم تماماً، فعاد »نسمة« يشرح ولا يتعب من التفصيل:
من قال ان الحب بلا منطق خاطئ، ومن لم ير في الحب إلا المنطق اعمى. بين شروط الحب التكافؤ. نادرة هي حكايات الحب بين »الامير« و»سندريلا« بحيث صارت »حدثا« يروى ويحفظه جيل عن جيل، وتكتب فيه الروايات والمسرحيات. صارت »حدثا« يروى ويحفظه جيل عن جيل، وتكتب فيه الروايات والاشعار. انت تبحث، غريزيا، عن اكتمالك في من تحب. والاكتمال ليس نزوة عاطفية. الاكتمال عقل.
قاطعته بغير ان اقصد: حب وعقل؟!
قال »نسمة« وقد لبس وقار الحكيم الآن:
من يفصل بين الحب والعقل مراهق معطل القلب والفكر او عجوز يعكس ظل حسرته لقرب غيابه على حياة الآخرين. يراهق الإنسان، مرة… وبائس من تتأخر مراهقته فيعيشها كهلا. ألم تسمع عن »جهل سن الاربعين«، بالنسبة الى الرجال، وعن توترات »سن اليأس« بالنسبة الى النساء… تلك مراهقة تأخرت عن موعدها تتخذ اشكال الحب، لكنها سرعان ما تتهاوى حين ترتطم بالحقائق الصلبة والباردة، واولها انها دون الحب بكثير. لا هي مؤهلة لترتقي إلى سمائه، ولا اصحابها مهيأون لمغادرة واقعهم بسجونه المتعددة الاسباب والابواب.
ران الحزن، فعاد »نسمة« يقول معابثاً:
لا يوصف الحب الا بذاته. واوصاف الحب تجيء من أهله، وهو يكتمل من خلال تكاملهما. الحب ليس عبثاً وليس اوهاماً. الحب انت في الآخر… الحب أنت والآخر. لست وحدك الحب. ليس وحده الحب. انتما معا تتكاملان فتغدوان حبا.
وانصرفت ابحث عن مراهقتي العاشرة.

Exit mobile version