طلال سلمان

في وداع نهاد الأسعد

ما أوسع صدر الحياة، ما أغنى تجربة أن تصنع قدرك بيديك، ما أقصر العمر: لماذا هذا الاستعجال يا أبا خالد؟!
نهاد الأسعد؟!
ما أصعب الموت وحيداً لمن لم يعرف أبداً أن يعيش إلا مع الناس، وفي حالة حبّ مطلق للناس، كل الناس.. فالحياة بالناس، والوحدة قاتلة، ولو في قصور معلقة.
ومن أجل إسقاط الحواجز مع الناس، هجر نهاد الأسعد، أسماء الأجداد: من يهمه اليوم أن تكون حفيد ناصيف باشا الأسعد؟ من يهمه أن تكون »وائلياً«؟! بل من يهمه التاريخ الوطني العربي لأسرتك العريقة، الذي لا يمكن أن يطويه فشل شخصي لهذا او ذاك من الأحفاد، او تعثر التجربة السياسية لبعض »المحافظين« الذين لم يرغبوا في تسلق الدماء خلال دهر الحرب الاهلية للوصول الى أعلى المناصب؟!
هي مكالمة قصيرة من البعيد طوت تجربة انسانية غنية كانت تحمل اسم نهاد محمود الناصيف الأسعد. دخل عليه الخادم ليبلغه بقدوم صديقه الحميم في زيارته الدورية فلم يجِبْه غير صمت الموت!
والأهل بعيدون: أقربهم في مسقط، والأصل في بيروت… وأسلاك الهاتف لا تقوى على حمل دموع الفاجعة… وإجراءات استنقاذ الميت تكاد تميت الحي! فاحمل مصابك في قلبك ولا تجهر به حتى لا تفسد على الناس عطلتهم فتستقدمهم الى التعزية بميت في الغربة يحتاج الى كثير من الأختام على أوراق رسمية، من أجل أن يجوز نعيه شرعاً!
»أبو خالد« المتحدر من الزرارية جنوبي صيدا، والذي استولده حب مهاجر في أفريقيا، ثم عاد ليواجه اليتم يافعاً في بيروت… ولأن القدر كثيراً ما يتدخّل لإعادة صياغة ما نقرره، فقد تدخل ليصطنع لنهاد الاسعد وليلى نجا قصة حب خارقة للعصبيات في بيروت. وكان ممكنا أن تمضي الحياة بهذا الشاب الذي صار مؤتمنا على المال في بلدية برج حمود، وهذه المعلمة في بعض المدارس الرسمية في بيروت، هانئة ووديعة، في ذلك البيت الطبيعي مقابل جامع البسطة التحتا.. حتى النهاية!
لكن الحرب الاهلية عصفت بالوطن الصغير، فإذا نهاد الأسعد »مشرّد« خارج برج حمود، وإذا المدارس الرسمية »مراكز قتالية«… وانتهى الامر بالأسرة الصغيرة في مسقط، بسلطنة عمان.. ثم كان لا بد من »انتشار« آخر، فذهب نهاد الى السعودية، ليكمل مشوار العمر في العمل الأخير!
وحيداً كان نهاد الأسعد حين نام، ووحيداً في سريره كان حين جاء الصباح ليجده قد غادر دنيانا الى بارئه. رحم الله هذا الجليس الأنيس، المحب للحياة حتى الثمالة، الطيب، الودود الذي كان يعشق الموسيقى والصبا والجمال، والذي ولد في الغربة، وفي الغربة ارتحل الى الدار التي لا غربة بعدها ولا فيها. رحمه الله.

Exit mobile version