طلال سلمان

في وداع سفير ماسي

كان يفترض أن تشكل مغادرة السفير الأميركي جيفري فيلتمان بيروت مناسبة سعيدة تطوى معها وفيها حقبة سوداء تظللها الممارسات الخارجة على أي عرف دبلوماسي، عاش اللبنانيون خلالها سلسلة من المآسي الوطنية لعبت فيها الإدارة الأميركية مباشرة، وعبر شخصه الكريم، دور التحريض على الانقسام والنفخ في نار الفتنة.
لكن ختام المهمة جاء مجللاً بمأساة وطنية جديدة عاشها اللبنانيون، أمس، على دوي الانفجار الذي أودى بالشهيد الرائد وسام عيد ومرافقه الشهيد المعاون أسامة مرعب وثلاثة شهداء مدنيين، فضلاً عن عشرات الجرحى من المواطنين الذي تصادف مرورهم على الطريق التي اختيرت للكمين الإرهابي القاتل.
وهكذا سيؤرخ للسفير فيلتمان أنه جاء مع القرار 1559 الذي يمكن التأريخ به للمحنة التي عاشها ويعيشها لبنان، وذهب مع العملية الإرهابية على طريق الحازمية، وارتبطت خدمته بمسلسل الاغتيالات والانقسامات التي ضربت لبنان في وحدته وعطلت دولته وشلت مؤسسات السلطة جميعاً وصولاً إلى أجهزته الأمنية ذاتها.
وبرغم أحزانهم وعبرها فإن اللبنانيين يأملون أن تكون هذه الجريمة المروعة التي سيؤرخ لها بمغادرة السفير (الذي بات ممكناً، الآن فقط، وصفه بالسابق) كخاتمة لأحزانهم أقله حتى يثبت العكس.
على أن اللبنانيين لن ينسوا هذا السفير، العزيز جيف ، الذي تصرف خلال وجوده بينهم، وبالذات منذ عشية الحرب الإسرائيلية على لبنان، في تموز ,2006 وحتى آخر ساعة له في بيروت، وكأنه المفوض السامي أو المتصرف المطلق الصلاحية بشؤون لبنان: فكان الموجّه السياسي للحكومة البتراء، والمحرّض اليومي لفريق الموالاة، والداعية الذي لا يتوقف لحظة عن تحريض اللبنانيين ضد بعضهم البعض، وضد جيرانهم الأشقاء السوريين، وضد إخوتهم الفلسطينيين، والمروّج النشط للفتنة والفخور بأن يكون مَن أيقظها .
يكفي أن نستشهد بخطابه الأخير في حفل تكريمه لدى قائد التنظيم الحربي بامتياز، عشية مغادرته، والذي أكد فيه أن إدارته كانت شريكاً قوياً لقسم من اللبنانيين ضد البعض الآخر، ولرؤيتهم وأصواتهم التي أيقظت العالم عبر ثورة الأرز التي أسيء فهمها …
ثم إنه أدان أصدقاءه البررة وهو يحاول الدفاع عنهم فقال: أنتم متهمون أنكم تقعون بقوة تحت تأثيرنا ! ولكي ينفي هذه التهمة فإنه غطاها بكذبة يصعب تصديقها: إن ما حدث هو العكس تماماً، إذ جعلتمونا نؤمن برؤيتكم ! والنتائج الميدانية تثبت، فعلاً، أن الإدارة الأميركية لا تقطع خيط قطن في لبنان، إلا بتوجيه من قادة ثورة الأرز التي أسيء فهمها !!
على أن سعادة السفير المغادر قد أعطى اللبنانيين مثلاً أعلى يسعون إلى تحقيقه هو مدينة دبي!
وبغض النظر عن الرأي الفعلي في تجربة دبي فإن هذه المدينة التي تتعاظم بقرار دولي ليست دولة، وأهلها مع التقدير ليسوا شعباً، بل هم بعض البعض من شعب دولة الإمارات العربية المتحدة، بكل ثروتها النفطية الهائلة.
ومن يرشح لبنان ليكون دبي يلغه كدولة، ويلغ شعبه، إذ يريد أن يجعله مجرد سوق ، وهذا هو وصف صاحب التجربة اللافتة في دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم!
على أن المفاجئ في ثقافة السفير الذي غادرنا وفي القلب حسرة، أنه بات يعرف معنى الشعوبية ! وأنه وهو الذي تعب من التحريض على استمرار الحكومة البتراء برغم مخالفتها الدستور، ومن دفع الأكثرية إلى انتخاب رئيس للجمهورية بمن حضر، قد تصدى لاتهام المعارضة بالعمل لتقويض ديموقراطية لبنان وتغيير طابع مؤسساته الدستورية.
فقط، أغفل السفير فيلتمان أن يستذكر أشلاء الجنود الإسرائيليين الذين سقطوا في أرض لبنان، خلال حربهم ضد شعبه، مع أن معظم الذين أقاموا حفلات التكريم في وداعه، جعلوا تلك الأشلاء صحنهم اليومي لأسبوع أو يزيد!
ثم إن السفير المغادر قد أظهر حسرته لأن جميع محاولاته (وإدارته) لضرب تحالف العماد ميشال عون مع حزب الله قد باءت بالفشل…
وهكذا فقد ختم بتحريض مكشوف للبطريرك الماروني لعله يخرج على التسوية التي يراها اللبنانيون المخرج الوحيد من أزمتهم التي تتهددهم في حاضرهم ومستقبلهم.
… ثم أطلق سعادته العهدين:
? إن إدارته لن تساوم على لبنان من وراء ظهور أصدقائه في الموالاة.
? وإنه، شخصياً، سيساعدهم من موقعه الجديد في واشنطن!
وعندما اتجه سعادة السفير في رحلته الأخيرة نحو مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت دوى الانفجار الذي صدع آخر ما تبقى من ركائز الطمأنينة لدى اللبنانيين، وجعلهم في حداد قد يطول.
وهم سيتذكرون دائماً هذا الرحيل مشفوعاً بمأساتهم الوطنية الجديدة، والتي يتمنون أن تكون خاتمة الأحزان!

Exit mobile version