طلال سلمان

في وداع زاهية قدورة حارسة التاريخ وروح بيروت

في آخر اتصال جاءني صوتها ضعيفا، وتواعدنا على اللقاء عندما تستعيد عافيتها. لكن الموت ألغى جميع المواعيد، وان هو سيبقى عاجزا عن تغييب الذكر العطر والأثر الطيب لأستاذة الاجيال وحارسة التاريخ بل شاعرته: زاهية قدورة.
هذه كلمات مستعادة من مناخ التلاقي، تترجم بعض ما أخذناه عنها وما تعلمناه منها أكثر مما تعبر عن شعور الفقد وعن حزن الافتراق مع معلمة الاجيال التي غادرتنا بعدما أنجزت رسالتها وانتشر تلامذتها يبلغون:
لم يسعدني حظي بأن أكون طالبا ينهل من علم الدكتورة زاهية قدورة، التي من موقع الاستاذة أسهمت في تخريج أجيال من الطلبة بعدما أنارت عقولهم بالثقافة وعرّفتهم بأنفسهم ودلّتهم على طريقهم الى الغد بحس التاريخ ودروسه الباقية لمن يحسن القراءة…
لقد تأنسن التاريخ على يدي زاهية قدورة: حارسة التاريخ بل شاعرته التي أعادت صياغته بلغة الناس، فصار مرهفا ورقيقا ومضيئا مثلها.
ومثلها صار شفافا لا يقبل التأويل المغلوط أو التفسير المدسوس لاغتيال ثقة العربي بنفسه وإضعاف ارتباطه بأرضه واعتزازه بهويته، وضرب شعوره بالقدرة والاهلية بتحقير اسلافه جميعا، وموروثه الثقافي كله، او بإظهار صغارته مرة بالقياس الى أهله الأقدمين ومرة ثانية بمقارنته تعسفا بمعاصريه المتقدمين عليه والسابقين الى العلم والمعرفة والتوغل داخل الاكتشافات وثورة الاتصالات والمواصلات المذهلة بوتيرة تقدمها واتساع آفاقها بما يتجاوز الكرة الارضية الى الفضاء الفسيح وكواكبه العوالم البعيدة.
لم تدرّسني زاهية قدورة، ولكنني أخذت عنها وتعلمت منها الكثير.
تعلمت منها ان المجد للأمة التي تنجب أبطالها ولا ينجبونها، فهي مصدر شرعيتهم وهي القائمة قبلهم والباقية بعدهم، منها يستمدون قوتهم وقد يضيفون الى أسباب منعتها، ولكنهم لا يغنون عنها في شيء، ترفعهم بقدر إخلاصهم وتعزهم بقدر إنجازهم، فهي مصدر الإلهام وهي المرجع الأسمى، لا أحد يختزلها حتى اذا ما شرفته بالتعبير عن إرادتها، في لحظة، ولا أحد يكبر عليها والا صار خارجها بل وخارجا عليها.
في صباحات كثيرة، خلال دهر المحنة التي تفجرت حربا أهلية هائلة البشاعات، كان يأتيني صوت حارسة التاريخ، والقيمة على شرف بيروت كعاصمة للنضال القومي وكمنتدى للفكر العربي وكمركز أول للثقافة العربية، تنبهني الى خطر ظاهرة جديدة من ظواهر الانقسام، او تحذرني من الانسياق بالغضب او برد الفعل وراء الدعاوى ذات الطابع العنصري، التي حاولت في فترات ان تباعد بين أهل بيروت فتوزعهم بين ابنائها الاصليين وبين من وصفوا بأنهم من الطارئين عليها، مهشمة روحها الجامعة، مجرحة احضانها الدافئة التي اتسعت وتتسع للجميع فهي قبلتهم وحصيلة جهدهم وعرق زنودهم، هي مدرستهم وجامعتهم وكتابهم ومشفاهم بين حناياها تنبض احلامهم وتزهر بيوتهم بالامل بغد أفضل، وعبر فجرها تجيئهم صحفها لتنشر بعض النور كاشحة دياجير الظلام عن دنيا العرب، حاملة اليهم صورة عاصمتهم الاميرة النبيلة، حتى في حزنها، بيروت.
كان هاتفها، غالبا، نذيرا، ينبه الى أمر جلل،
لكنها ولا مرة أظهرت يأسا او قنوطا، او طالبتني بالصمت خوفا،
وأعترف انها قد دلتني، مرارا، الى الطريق الصح، بينما تتآكلني الحيرة وأنا أنزف كرامتي وسط معمعمة اقتتال الاخوة، وسقوط القيم وارتفاع صوت الغلط ملعلعا قذائف مدفعية ورصاصا يقتل الوطن قبل المواطنين.
اعترف ان زاهية قدورة قد علمتني، مرارا، وانها كثيرا ما شدت ايماني ونبهتني الى ان وهن الايمان هو أقصر السبل الى الخطأ، وانها كانت تضيف الى عزيمتي كلما تهددني ضعف الجريح.
كانت زاهية قدورة روح بيروت ووجهها الطيب، والعربية حتى لتكاد تكون صورة للأمة… فلقد اجتمعت فيها القاهرة ودمشق، بغداد وصنعاء، الرباط وتونس، طرابلس والخرطوم، وسائر العواصم وكل الناس.
واجتمعت فيها فلسطين كل فلسطين بقدسها وناصرتها وسائر المدن والقوى ذات القداسة.
ثم انها حفظت جمال عبد الناصر في حناياها واتخذت من إنجازه نبراسا للهداية وتأكيد القدرة على تغيير ما لا بد من تغييره،
لقد أعطت زاهية قدورة مع نخبة من اخوانها من رجالات بيروت، جمال عبد الناصر الفرصة لكي يرد لبيروت بعض عطائها المفتوح للعروبة، فكان قراره العظيم بالمساعدة على إنشاء جامعة بيروت العربية صرحا جديدا للعلم، مفتوح الأبواب للفقراء الذين كان الضيق في الرزق يحرمهم من فرصة التحصيل العالي، لا سيما قبل انتعاش الجامعة اللبنانية وتمكينها من القيام بدورها الوطني الذي لا يمكن ولا يجوز شطبه او الاستغناء عنه بالجامعات الاجنبية او تلك المستجدة تحت اعلام الطوائف.
سلاما استاذة العرب، يا حارسة شرف المجد العربي من دون السقوط في هاوية عبادة الماضي.
سلاما عليك أيتها المبشّرة بالغد، حتى بعد الرحيل.

Exit mobile version