طلال سلمان

في وداع رفيق البدايات ## نيازي جلول.. الفنان الذي أقام في الصمت

بصمت مطبق، ومن دون وداع رحل نيازي جلول. ويحق لكثيرين ان يسألوا: ومن هو نيازي جلول؟
أقسى أنواع الظلم ان يرحل من أعطى الناس متعة السخرية من الغلط، من الدكتاتورية، من حكام الظلام والعسف، من الابتذال السياسي، من القمع الاقتصادي والاجتماعي، فلا يستذكره أحد، وإذا ما تذكره البعض بعد جهد استدرك معتذراً: ولكنه اختفى منذ دهر، ولم نعد نرى رسومه… أما المكابر من معاصريه فيلوي وجهه إلى الجهة الأخرى قائلاً: هل تبقي لنا هذه الأيام الفرصة لاستذكار الماضي… إننا تائهون في خوفنا من المستقبل!!
لم يكن نيازي جلول يطمع في ان يشيّع كفنان كبير، ولا هو كان يأمل في ان تقدره الدولة فتمنحه ـ مثلاً ـ وسام الاستحقاق، أو تسمي شارعاً باسمه، أو ان تهتم جمعية الفنانين فتقيم معرضاً استذكارياً لإعماله.
لقد عاش لا يطلب شيئاً من غيره. عاش مستوحداً، متوجساً من المجهول، وقد اختار العزلة، ربما لأنه لم يكن طلق اللسان، وربما لأن لغته لم تكن تليق بالمتأنقين في ألفاظهم، وربما لأنه كان يفضل ان يعبر بريشته أكثر مما بالكلمات، والريشة جارحة لأنها صادقة.
ـ ولدت وعشت سنواتي الأولى في البرازيل، وتعلمت العربية خلسة، لأن لغة البيت كانت الاسبانية… وأنا أخاف الحديث بها لأن رفاقي الصغار من العرب كانوا يسخرون من عجزي عن التعبير. لهذا أفضل ان أتحدث باللغة التي أتقنها: الرسم!
ربما لهذا عاش نيازي جلول في عالمه الخاص. يسمع أحاديث في السياسة وعن السياسيين الذين لا يعرفهم. وينتبه إلى ان الآخرين قد يقهقهون أو قد يغضبون وهم يتناولون القادة والزعماء فلا يعرف لماذا، وأين موقع النكتة أو سبب الغضب… ولهذا كان موقفه «مبدئياً»: انه مع الناس، مع وجعهم، ومع التسرية عنهم، لذا يحاول ان يسخر من السياسيين.
ولقد بدأ نيازي جلول مع مجلة «الحوادث» لصاحبها الراحل سليم اللوزي في بيروت وكان حديث التخرج من معهد الفنون الجميلة، وانتهى معها في لندن بعد ان أخذتها الحرب الأهلية إلى المنفى البريطاني الفاخم والبارد.
[ [ [
عاش نيازي جلول زمنه الخاص. وعاشه بأسلوبه الخاص. ظل خارج المألوف في علاقته مع مهنته، الرسم، ومع زملائه الذين اختار من بينهم قلة قليلة تستحق مرتبة «الصديق». كانت «لغته» مختلفة، فذهب بعض عارفيه إلى اعتباره «غير عربي» مستدلين باسمه الاول «نيازي» وبطريقة نطقه الكلمات مقطعة، وما غمض من حروفها يعوضه بملامح وجهه وغمزات عينيه من خلف نظارتيه.
أطل نيازي جلول على دنيا الرسم، بعد تخرجه من أكاديمية الفنون الجميلة في بيروت، وقد كان زميلاً لبيار صادق، وجان مشعلاني ومحمود كحيل. وكانت المحطة الأولى مجلة «الحوادث» في بداياتها، وكان مدربه الأول صاحبها سليم اللوزي: هو من يحاول امداده بالأفكار الطريفة، فيسمع نيازي ويهز رأسه وينصرف، ثم يعود وقد رسم ما يفترض انه يعبر عن «الفكرة»، ولكن بصورة أرقى، مستنداً إلى دعم «البيك» منح الصلح و«المدير» شفيق الحوت و«الجمهور» المكون من زميلين مبتدئين مثله.
و«تخرج» نيازي جلول من مدرسة فن الكاريكاتور حين صافح جمال عبد الناصر رئيس دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، في دمشق، مع بدايات خريف العام 1959، فأشار «الريس» ضاحكاً إلى بعض أعماله النقدية الطريفة وأشهرها «الرجل الثالث»، ولم يعرف نيازي ما يقول.. فضحك وضحك الجميع.
فجأة، اختفى نيازي جلول، ثم تبين انه قد اعتكف في مسقط رأسه بعد عودته خائباً من لندن التي سافر إليها بطلب من سليم اللوزي.. عشية اغتياله خلال زيارته الأخيرة بيروت. وهكذا أمضى بقية عمره في رأس مسقا، التي تطل من موقعها عند مدخل الكورة على المدينة التي أحبها حتى العشق: طرابلس.
توالت الحروب على لبنان، وبعضها تركز على طرابلس وفيها، فصار غياب نيازي جلول غربة، وصمتت ريشته التي تعودت ان تنثر الابتسامات أو تنتج الجمال لوحات تنطق بحب الحياة. ونادراً ما كان يستطيع «تهريب» بعض التحيات التي تطمئن القلة القليلة من أصدقائه إلى انه ما زال يمارس حياته رسماً وإنتاجاً للأبناء والبنات وقد بلغ المجموع تسعة.
بالأمس جاءنا خبر نعي نيازي جلول: المبدع الذي أعطى كثيراً ومات مجهولاً.
بالأمس، خسرتُ رفيق رحلة البدايات الذي لم يفصح عن مشاعر وده إلا بعدما صار بعيداً… يعيش فنه وعواطفه الصادقة في رأس مسقاه.
وداعاً يا رفيق الرحلة الصعبة والممتعة من منطقة ما بين القصرين: القنطاري حيث رئاسة الجمهورية وقصر هنري فرعون،
إلى برج حمود حيث كنا نتوه عن «بيتنا» كل ليلة فنتخذ من الأعمدة المرافقة لسكة الحديد دليلاً إليه حتى أتعبنا الضياع فعدنا خائبين إلى المكتب الذي أفرغته «الثورة» من شاغليه فبات يصلح فندقاً للباحثين عن مستقبلهم في الصعب.
وداعاً أيها الصديق الذي أقام في الصمت وجعل الآخرين يضحكون من أهل الكلام.

طلال سلمان

Exit mobile version