طلال سلمان

في وداع الزيتونة المباركة

.. وحين وقف يودع بكره «عبدو» الذي صار جدّاً، قال «أبو عبده» وهو يتأمل غابات الزيتون التي خضّر بها الأرض اليباب: كان الموسم جيداً، برغم أن الصيف كان بلا نهاية والمطر صار عزيزاً..
هز «عبده» رأسه ونظر إلى كفي والده الذي رفض أن يصير عجوزاً، فرآهما مشققتين، غلبت الغلظة الترابية على أصابعهما. قال: هذا جهدك قد أثمر.. سيتحدثون عنك غداً بوصفك أول من ادخل الزيتون إلى هذه الأرض.
لم يسأل «أبو عبده» بكره عن حجم الإنتاج، زيتاً وزيتوناً. كان يعرف بالتقدير أن الإنتاج ممتاز… ولكنه سأله: ستسافر غداً، إذن، وستعود في آذار كما قلت لي، مع الربيع. لقد عشت الفصول جميعاً أكثر مما يجب. ليس لي من رفيق في غيابكم، إلا الزيتون. العنب صديق قديم، وكذلك اللوز. لكن أحب الأبناء أصغرهم. وللزيتون الآن، هذه المكانة.
لم يعرف «عبده» أن والده كان يودعه. في كل مرة يتركه حارساً للضيعة وشاهداً على توالي أجيالها ثم يعود إليه فيجده حيث تركه بعدما اعتزل الناس: الأرض أكثر صدقاً. تعبت من الناس بهمومهم وثرثراتهم ومنازعاتهم التافهة.
لكن الزيتون كان يعرف، والكرم كان يعرف، والعصافير كانت تعرف، وكتم الكل السر: ليسافر إلى عائلته في أميركا مطمئن البال.
وحدها الأرض كانت تعرف أن «عبده» سيعود «ليغرس» جذع الشجرة المباركة حيث أحب الحياة وأحبته الحياة.

Exit mobile version