طلال سلمان

في وداع الحبيب حبيب صادق

لن أرثيك. أنت باقٍ. فرادتك تحميك من النسيان. كنت ملء الثقافة وراهب المعرفة وحارس القيم. انتماؤك صافٍ. وتواضعك لغة حياة. لم تسقط أبداً. لا إغراء يجذبك. كنت أنت. قليلون مثلك. أنت من القلة التي بتواضعها ارتفعت.

أبحث لك عن عيب فيك. عبث. كنت أنت وكان الآخرون سواك.

لن أرثيك. أرثي حالنا. أنت عاينت وعانيت. كنت تواسيني دائماً. تدعوني إلى التفاؤل. عاندتك، وكنتُ على حق. كنتُ في مسيرتي مصاحباً لليأس والتشاؤم ولا أزال. أما أنت فكنتَ تُصرّ على أن المسار صعب وشاق. لا أقول أنك كنت متفائلاً، إنما، كنت دائماً مشدوداً إلى الأفق، إذ من المستحيل أن تموت القضايا النبيلة.

لن أرثيك. أرثي بلاداً، كنت أنت ترى أن لها موقعاً تحت الشمس. تجمع الحروف كلمات، تصيغ الكلمات بنبرة التفاؤل وواقعية العمل. غيرك كان يدفعك إلى ما لا تحمد عقباه. كنت تُشهر انتماءك الرصين. الانتماء البنّاء. لبنان قضية لا مزرعة. الشعب مقدس ولا يدنّس.  فلسطين، الأمل الممكن. الثقافة محراث لزرع المعارف ونشرها. ثم، وبرغم كل ذلك. أشهد لتواضعك. فلم تكن مثقفاً آمراً. كنت مثقفاً يتثاقف مع الشبيه والمختلف وعابر الكلام.

ألزمتني بالوضوح. كنا إذا التقينا، على منبر أو ندوة أو حوار، أُشهر اختلافي. أنا يائس أصيل. تاريخنا سجن للآمال المشروعة. كنت تُصر وأنا أعاند. كنت على حق، وكنتُ شبيهاً بالرسول توما. لم يكن يصدق إلا بعد وضع الإصبع في جراح المسيح.

من أين كان يأتيك الوضوح.. في هذا المدى المعتم؟

من أين كان يأتي إيمانك بالقضايا النبيلة خاسرة؟ عدّد معي:

فلسطين وحدها على قيد الحياة، ترتقي جلجلتها متسلحة بدمها. وحدها الباقية. إنها تشبه أملك وتفاؤلك ومراسك الهادئ. كنت دائماً تبشّر بأن العاصفة قادمة. معك حق. ولكن، إسمح لي أن أسألك، ماذا بقي من العقائد؟ من الأفكار؟ من اليسار؟ من الحرية؟ من الإنسان؟.

أتجرأ وأسأل: ماذا بقي من الأحزاب؟ لماذا انتصرت الحروب؟ أين العدالة؟ أين الحرية؟ أين الشعب، الشعوب؟ أين الانسان؟

كنت ترى كل ذلك. ولكنك كنت تشير إلى البعيد.

غريب أنت. ألهذا نذرت ايمانك وفكرك؟ ألم تشعر بالخذلان؟

أظنك، فيما كنت أنا أقرأ الماضي البائس، والواقع اليائس، كنت أنت تُشعل شمعة وتشير بكلامك إلى المستقبل.

النيابة لمرة واحدة، كانت عقوبة لك. نجوت منها في ما بعد. عُدْتَ إلى صومعتك والتف حولك ومعك لبنانيون حقيقيون. مفكرون مخضرمون ومعتقون بالتجارب والخيبات. المعارضون السوريون، كنت لهم منبراً. حاورتهم ونقلوا إليك معاناتهم وخسائرهم. إلى آخر ما أفضت اليه ثورة البوعزيزي في تونس. كان ذلك الزمن مفتوحاً على ضوء ساطع، لكنه انتهى إلى عتمة وحروب أهلية ودمار دول وخراب بوسع “الأمة”.. كل “الأمة”.

قرأت ما قيل فيك. إنك تستحق هذا الكلام وأكثر منه أيضاً. مثلك قلة، وربما لا أحد. لا أجزم. والغريب، أنك لم تكن ذا صوت عالٍ. إنما كنت رائياً حكيماً. ثقافتك سفينة عبور إلى ما بعد المعرفة. إلى العمل. وقد أجدته، حتى آخر نقطة حبر ونقطة دم.

كنّا نحتاج إليك. رصيف المثقفين والكتّاب الأصلاء المؤمنين بالإنسان والحرية والعدالة. بات الضيوف قلة. وحدها الفنون تتقدم، تنافسها بضاعة سيئة السمعة وتافهة المقامات، وتستفحل في الممالك والإمارات والرئاسات، لإضفاء “الحداثة الخبيثة” على رجعية أصيلة، وبدوية تراثية، وغزو رأسمالي، وتسلح رجيم، لا يستعمل إلا ضدنا.

استرح حيث أنت. لا تسأل عنّا أبداً. نحن في أسوأ حال. إننا نقيم في ما يشبه الجحيم.

سنتذكرك بأسىً. ونحفظ سيرتك في القلب.

الى اللقاء. ما أبدع حيث أنت الآن.

Exit mobile version