كثير من الناس يعتبرون الدولة مسألة حكم وسيطرة وسلطة. وأن السياسة هي صراع على السلطة. وأن السلطة هيبة. بل قسر وهيمنة، والهيبة لا تحصل إلا بالعنف، والعنف تتبعه المراقبة. هي في نظرهم تراتبية اجتماعية. تكون فيها الغلبة لطبقة أو طائفة أو إثنية أو فئة عسكرية أو مزيج من هذه وتلك. وغالباً ما يكون على رأسها طاغية يحكم.
يتطلب فهم الدولة على أنها غير السلطة تجاوزاً لهذا الفهم. الدولة لا تلغي السلطة بل تجعلها خاضعة لمصلحة أعلى؛ تغلب في تقرير هذه المصلحة السياسة أي الحوار والنقاش واجتراح التسويات. ليس في الدولة الحديثة قسر وإكراه وعنف إلا في حالات شاذة. عادة ما يكون التصرف حسب القانون. فلا يحتاج الناس الى من يرشدهم الى الطريق السديد. في هذا المفهوم، مهمة السلطة إدارة المجتمع لا تسييره بالسيطرة عليه؛ تركه يتطوّر كما يشاء لا العمل على هندسة وتقرير تطوره.
من المفهوم الأول الى الثاني ننتقل الى الدولة الحديثة، حيث يمكننا توقع نتائج أفعالنا لأنها سوف تكون حسب القانون ويكون تطبيق القانون تلقائياً؛ وحيث تقرر العلاقة مع الفرد نصوص العقد بين المجتمع والسلطة، لا عشوائية الحاكم مهما كانت عبقريته. ليس أخطر على الدولة الحديثة من الكاريزما عند قادة يعتقدون أن المجتمع لا يستمر من دونهم، وتكون علاقتهم بالمجتمع قبل علاقة الخالق بالعباد.
الرأي العام في دولة السلطة والكاريزمية مخصيّ؛ بالأحرى هو ملغي أو مخفي. في دولة السلطة هناك إزدواجية الرأي لدى الفرد: رأي يعكس إرادة السلطة، ورأي آخر معاكس، يعبّر عن إرادة الناس. الرغبات في دولة السلطة تنحدر الى المستوى الحيواني، أي الحفاظ على البقاء فقط. التفكير فيما يتعدى ذلك يعرّض صاحبه للخطر. الرقيب يقف له بالمرصاد. يحتفظ من يفترض أن يكون مواطناً برأي لنفسه، ورأي آخر للعموم. يبطن غير ما يظهر، ويظهر غير ما يبطن.
الدولة يوتوبيا ضرورية. اليوتوبيا تعبير عن أحلام الناس، وعن إرادتهم. السلطة من دون مفهوم الدولة واقع غالباً ما يكون مؤلماً ومذلاً ومهيناً. لا يقل أهمية أن دور العقل يضمر إن لم يتلاشِ. الذين يعيشون في ظل السلطة المجردة تتعطّل ملكة التفكير لديهم. ربما نعموا بتكنولوجيا التفكير. ربما كانوا يجيدون المنطق وأليات التفكير، لكن الفلسفة عندهم معدومة. لا مكان للتنظير. التأمل مسألة متروكة للتبحّر داخل الذات. الثورة التي تطرح إسقاط النظام هي أشبه بانفجار الذات الجماعية.
ـ الدولة الحديثة ليست النظام، وليست السلطة، وليست الهيبة. هي إرادة الناس أن يعيشوا سوية.
ـ في الدولة الحديثة يتصارع الناس، طبقياً وغير ذلك. يتنافسون في إطار الدولة لا على الدولة. السلطة أو النظام يخضعان للدولة وضروراتها، ولا يقتصران على التنافس من أجل السيطرة على الحكم.
ـ الدولة مجال الحرية، السلطة مجال القمع.
ـ الدولة مجال اليوتوبيا، السلطة مجال الواقع.
ـ الدولة مجال انتظام عمل المجتمع، السلطة مجال الصراعات.
ـ الدولة تستحق أن نكون أو لا نكون من أجلها، السلطة لا تستحق إلا أن تكون من أجلنا.
ـ الدولة هي الدستور والحدود. هي تجريد كامل؛ السلطة هي المؤسسات والأجهزة الأمنية وغير الأمنية.
ـ الدولة تبقى، تستحق الأبدية؛ النظام (السلطة) وجد ليزول. يتغيّر النظام في إطار الدولة ذاتها.
ـ الدولة العميقة ليست الدولة بأي من أشكالها. هي السلطة ذات المؤسسات.
ـ الدولة تمنح الشرعية للسلطة؛ عندما يمارس الناس السياسة في إطار الدولة؛ السلطة مهمتها تسهيل الحوار والنقاش، تسهيل السياسة.
ـ في عام 1945 أسقط الناس السلطة (تشرشل) وليس الدولة (الملك).
ـ الدولة هي الضامن الأخلاقي للسلطة. شرط تقيّد السلطة بشروط الدولة.
ـ الدولة تؤكد الفرد. هي في الأساس تكتمل بتشكلها من أفراد من دون طغيان الانتماءات (العائلة، العشيرة، القومية، الإثنية، الخ…).
لا ينقصنا، نحن العرب، أنظمة. هي موجودة. وربما لا يوجد غيرها. ما ينقصنا هو الدولة في الواقع وفي وعينا. طغت الأنظمة على الدولة (الدول) بواسطة الاستبداد. كل نظام يحكم من دون دولة، أي في إطار لا يعطيه الشرعية (رضا الناس) هو حكم استبداد. ما يتحكم بعقولنا ويشكل لنا وعينا هو الخلط بين الدولة والنظام. في هذا الخلط يتحكم النظام بالدولة. يصير هو الدولة. يلغي الدولة، تختفي السياسة.
مع استقلال “دولنا”، كان الاستقلال الحقيقي للسلطة. بقيت الدولة تابعة باسم الروابط التاريخية. أخذنا دولنا. لم تكن السلطات مغروزة في قلب المجتمع لتعطي الدولة شرعية. ظلت السلطة أجهزة، منها ما هو تابع ومنها ما هو مستقل. بالنتيجة صارت كلها تابعة للخارج. مثلت الدولة مصالح الناس ورؤيتهم للمستقبل؛ حسبوا أن المصير بيدهم. كانت الديمقراطية ممكنة. أمسك الغرب بأطراف السلطة، وبالأجهزة، وبالبيروقراطية بطريقة أو بأخرى. كانت العلاقة بالخارج من خلال الأجهزة العسكرية والأمنية. مهمة الأجهزة العسكرية كانت حماية الدولة. فجرّت البلد للتبعية
لا بدّ من سلطة حتى يستقيم عمل الدولة. على السلطة أن تكون خاضعة دائماً لمتطلبات الدولة. تجريد صعب أن يفهمه الممارسون في السلطة. الدولة لا يحميها إلا الشعب. السلطة تحميها القوى الموجودة من عسكرية الى أمنية الى بيروقراطية. على السلطة أن تخضع لتدريب مستمر كيلا تتجاوز مهماتها.
نقلت الثورة المضادة في البلدان العربية الصراع منذ عام 2011 الى صراع على الدولة بعد أن طرحت الثورة صراعاً على النظام (الشعب يريد إسقاط النظام). لم يكن ذلك صدفة. سيكون صعباً تغيير الخرائط ورسم حدود جديدة لكل بلد. لا تتغيّر الحدود إلا في أحوال استثنائية، منها الحروب العالمية، واتفاقات تعقد بعدها على اقتسام العالم. ما يجري الآن داخل كل قطر عربي هو صراع على الدولة: تدمير الدولة، وتدمير مفهوم الدولة في وعي الناس.
الطوائف، حيث الطائفية، تلغي السياسة إلا ما أُجمع عليه ليصير ميثاقياً. هو ما يمكن أن تشكل فيه طائفة واحدة فيتو في أية مرحلة، فتتعطّل الحركة ويُشل الاقتصاد. هذا البلد يتحكم فيه الاستبداد حتى ولو لم يكن هناك طاغية.
لا توجد الدولة إلا بالسياسة: حوار عام ونقاش وتسويات، وتناقضات المصالح والآراء التي تجري التسوية بينها. لا تكون التسوية مرضية لأي طرف بالكامل. لكنها تكفي لأن تدع أمور المجتمع تدار بفعالية ولو ناقصة. في إطار الدولة، في إطار السياسة، يجد الجميع مكانهم، ويشاركون في القرارات عن طريق تمثيلهم، ولو كان التمثيل ناقصاً أو مشوهاً.
في الدولة حركة المجتمع. في النظام الصرف تتحكم السلطة أو النظام. يختفي التطوّر أو ينعدم. تسيطر وجهة نظر واحدة، ولا تتصرّف قوى المجتمع إلا بحسبها.
يكون مفيداً جداً أن يتكرر الحديث حول الدولة. علّ هذا المفهوم ينغرز في الوعي العام؛ علّ هذا المفهوم يجعل الناس يطبّقون القانون ويتصرفون حسب الدستور من دون قمع أو استبداد. يحكم النظام ونحسب أن لنا دولة. لكننا نرى أنفسنا غرباء. ولا ندري أن الغربة سببها عدم التمييز بينهما. نتذمر من عدم وجود دولة أحياناً، لكن الدولة موجودة شئنا أم أبينا، لكنها خارج وعينا. النظام موجود دائماً. ما يمنع وجود الدولة هو النظام. نظام الاستبداد.
تفرّد النظام (الاستبداد) في أرضنا هو ما يجعلنا غرباء عن وطننا، لأننا خارج دولتنا، ولأن دولتنا خارجنا، لأنها عملياً غير موجودة.
الدولة هي الوجود الذي ينتج عنه الاعتقاد الراسخ بأننا نستطيع العيش سوية. وأن هذا يمكن أن يتحقق بانتظام تلقائي يُسمّى الدستور والقانون. ليس في بلادنا العربية دول؛ هي مجرد أنظمة سلطة تتحكم بها العشوائية. العشوائية جوهر الاستبداد.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق