طلال سلمان

في عيد خمسين لجيش دولتين

اليوبيل الذهبي مناسبة جليلة تسمح بإظهار ما كان خافيù أو مخفيù من الحقائق المتصلة بالجيش، كهوية ودور وموقع في صلب النظام.
إلى ما قبل الحرب الأهلية في العام 1975، كان الجيش مجرد أداة في يد الحكم يهوِّل بها على معارضيه، وعلى »الشعب«، إذا ما اقتضى الأمر.
كان الحكم قويù والجيش ضعيفù ومضيَّع الدور (الوطني) والهوية (القومية)، وكانت السياسة الرسمية المعتمدة تتقصّد أن تستبقيه بعيدù عن موقعه الطبيعي في قلب الصراع العربي الإسرائيلي انطلاقù من المقولة السمجة: »قوة لبنان في ضعفه«.
بعد الطائف، وتحديدù بعد فجر 13 تشرين الأول 1990، اختلف دور الجيش جوهريù، خصوصù وقد كان تحركه لإنهاء التمرد، معززù ومؤيدù بمساعدة القوات العربية السورية، هو العنصر الحاسم في قيام »الجمهورية الثانية«،
وعلى امتداد السنوات الخمس الماضية احتل الجيش مزيدù من المساحة في قلب النظام، بحيث بدا وكأنه »المؤسسة الوحيدة« في »الدولة« القديمة المجدّدة، وارتفعت الأصوات تطالب ب»دولة لهذا الجيش«.
ولم يكن ممكنù الاعتراف بهذا الدور الجديد للجيش لولا أن »جمهورية الطائف« اعترفت بداية بهويتها، وبالتالي فقد اقترب الجيش من أهله، ولم يعد »البعبع« الذي يخيفهم به الحاكم، كما تحرّك الجيش في اتجاه موقعه الطبيعي في خط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، ولم يعد يسخّر لقمع المقاومة، بل صار ظهيرها ورديفها بالأمر اليومي.
وما كان ذلك ليتم لولا التصحيح الأخطر على مستوى العلاقة مع القوات العربية السورية، وهو تصحيح بدّلها من عدائية مستترة يغلّفها نفاق معلن، أو استعلائية معلنة مبطّنة بمداراة شكلية وموسمية يتولى ترتيبها أهل الحكم، إلى علاقة أقرب ما تكون إلى »الطبيعي«.
لقد صمد الاغتراب عن حقائق الحياة نصف قرن كامل!
تأخر الاعتراف بصلة الرحم بين الجيشين في كل من لبنان وسوريا، خمسين سنة، ولما دقّت الساعة كاد نفاق المزايدين يذهب بالصلة وبالرحم نفسه… يكفي تأمل اللافتات المزركشة، وقراءة عناوين خطب المهرجانات وتصريحات المناسبات، للانتباه إلى أن ما نراه »أجمل من أن يكون حقيقة«، مع أنها أقل مما تستحق المناسبة.
والصلة اليومية بين الجيشين الآن مطمئنة، فهي لأول مرة تتخطى الشكل إلى المضمون، وتضرب عميقù في جذور المؤسستين في اتجاه تعميق العلاقة الطبيعية بين جناحي »الجيش الواحد في دولتين« كامتداد لمقولة »الشعب الواحد في دولتين«.
لكن يبقى أن تكون لجيش لبنان دولة بمستوى الحاجة إن لم يكن بمستوى الشعار المرفوع.
و»الدولة« القائمة في لبنان لا تبعث على التفاؤل، خصوصù وأن بعض أقطابها يعتبرون أن »تعاظم قوة الجيش إنما يلغي الدولة«!
هل يكون التصحيح هناك الوجه الآخر للغلط هنا، وهل يجتمع الصح والغلط في »ميدالية« واحدة؟!
إن الصورة القديمة للجيش اللبناني تشحب وتكاد تختفي، وفيها ما كانت تعبّأ به هذه المؤسسة من العدائية والريبة تجاه الجيش السوري.
كانت تحكم الجيش اللبناني عقدة استعلاء غير مبرّر.. اللهم إلا بكونه غربي العقيدة، غربي السلاح والمتباهي قادته وكبار ضباطه بأنهم خريجو أرقى المعاهد والكليات العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية والبلجيكية، بينما أقرانهم السوريون من خريجي الكليات العسكرية في البلاد الفقيرة داخل »المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم«!
لكن الوقائع كانت تنصف الجيش السوري كجيش مقاتل في حين أبقي الجيش اللبناني للاستعراض!
الدم هو ما يجمع، وأما الزبد الغربي فيذهب جفاء.
ولقد امتزجت دماء الجيشين في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان، ودائمù من أجل هدف عزيز ونبيل وغال على قلوب اللبنانيين والسوريين في آن.
الصورة صحيحة الآن: العدو هو العدو ولا بدّ من مقاومته، والصديق هو الصديق رفيق السلاح وشريك المصير.
ويبقى أن تتوحد »الدولة« في لبنان، فلا يظل بعضها يقاتل البعض الآخر، بذريعة منع الجيش من الاستيلاء على السلطة،
مع الاشارة إلى أن المحاربين من أجل إبعاد الجيش عن الحكم لا يفعلون، بقصور نظرهم وخبث أساليبهم ورداءة أدواتهم سوى تقريب المؤسسة المحكومة بالصمت من موقع القرار الشاغر لتناحر شاغليه أو لانشغالهم عن مهمة بناء الدولة بمهام الاستيلاء على خيراتها المنقولة وغير المنقولة.
في العيد الذهبي للجيش يفتقد اللبنانيون دولتهم… دولة تليق بهم، بطموحاتهم وبحقوقهم، وتليق بهذه المؤسسة الوحيدة التي يجمع الناس أنها تأخذ أقل مما تستحق وتعطي أكثر مما يطلب منها!

Exit mobile version