يرفرف الخوف بجناحيه الأسودين فوق لبنان من أقصاه إلى أقصاه.
صار الخوف الدليل الوحيد على وحدة اللبنانيين.
وفي ظل الخوف صار لبنان البلا دولة أكثر من عشرين دولة.
صارت بيروت التي كانت (وستبقى) تحتضن اللبنانيين جميعاً فتؤكد وحدتهم مشطرة بعدد أحيائها والتفرعات، تكاد الشوارع تتحوّل إلى خطوط فصل وأحياناً إلى حدود يكمن خلفها المجهول الذي يفضل تركه مجهولاً.
بل صارت العمارات جبهات تفصل الشقق فيها خطوط تماس ، ويتبادل الجيران الذين كانوا يعيشون كالأهل، نظرات الريبة والحذر والشك، يتفحص واحدهم الآخر كأنما ليقرأ نواياه، أو يرد عليه التحية باقتضاب وقبل أن يلمحه جار ثالث فيتهمه في… أخوّته!
صارت ضواحي بيروت عوالم متباعدة، تفصل بينها خنادق من الأحقاد، تباعد في ما بينها، وتباعد بينها وبين العاصمة الأم، مع أن لا ملاذ لها إلا فيها.
صارت طرابلس بعيدة جداً، تفصلها عن بيروت دويلات وخنادق ضغائن تعيد بعث الذكريات المرّة، وأبسطها أن قطع هذه الطريق بالذات قد أفضى إلى كارثة وطنية: استشهاد الرئيس رشيد كرامي الذي لكي يتحاشى التصادم مع الميليشيا التي تقطعها كان عليه أن يركب الحوامة العسكرية… وفيها تمّ اصطياده !
صارت بيروت معزولة عن محيطها بالحواجز المتعددة الرايات، وعاد رصاص القنص يقطِّعها أحياء متباعدة، بينما الأحقاد العتيقة تبعث من رقادها فيسقط القتلى والجرحى، ويعود الرعب ليحجز كل حي عن الأحياء الأخرى.
صارت صيدا بعيدة جداً عن بيروت بعدما اجتاحت الطريق حواجز الأحقاد والأغراض لتعزل هذه المدينة الأبية التي صمدت للعدو الإسرائيلي بقتاله، وصمدت لكل محاولات التقسيم بوطنيتها، وانتصرت على كل المحاولات الخبيثة التي بذلت لقطع حبل السرة بينها وبين محيطها، بما يجعل الجنوب خارجها أو يجعلها جزيرة تفصل الجنوب عن سائر أهله في الجبل والبقاع وبيروت والشمال..
صارت الطريق إلى الجنوب مزروعة بألغام الفتنة، وهي التي كانت الطريق إلى مجد المقاومة وعز الانتصار على الاحتلال..
عاد الجنوب إلى موقعه القديم، خلف الذاكرة، كأنه بلاد أخرى، لا يعني إلا أهله، تكفيه قوات اليونيفيل والقرار 1701 والطيران الإسرائيلي الذي يستبيح سماءه الآن أكثر من أي وقت مضى… ولا أحد يسأل عن جراحه التي ما تزال نازفة، فلينتظر أهله في الخيم ووسط الركام جهود إعادة الإعمار التي أضاعت طريقها إليه.
الخوف سيد الأحاديث ومحورها في كل مكان، وهو خوف سبق أن عاشه اللبنانيون وافترضوا أنهم قد انتصروا بالتسوية السياسية عليه، لكنه يعود الآن أعظم كثافة وأغنى في مصادره: إنه حميم و عائلي فهو شقيق أو قريب أو نسيب، بحيث إنه يمس العلاقة بين الزوجين، وبين الأهل وأصهارهم. حتى وحدة الدين لم تعد عاصماً من الخوف، بل إنها قد تحولت إلى مصدر للخطر!
لم تعد تنفع الخرائط القديمة لطرق السلامة بين المكتب والبيت، بين بيروت والجبل، بين الجنوب والبقاع، بين الشمال والشمال، بين كل قرية وأخرى.
صرت بحاجة إلى خريطة تفصيلية للطرقات بدءاً من باب بيتك إلى موقع عملك… أما بين بيروت وسائر المناطق فإن الاستعانة بالخرائط العسكرية، لا تكفي، بل عليك أن تعيد درس الخريطة طائفياً ومذهبياً، فتحاول تحاشي الطرق التي تعبر مناطق ذات لون طائفي أو مذهبي غالب، حتى لو اضطررت إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح.
تقدم الخوف على السياسة. لم تعد السياسة تكفي كإطار للخلاف، بل هي انحطمت تحت ضغط الغرض فصارت مجرد ستار لا يحمي طريقاً ولا يوقف قناصاً عن جهده المبارك في الفصل بين الأخوة بالدم.
التهم الخوف المبادرات التي وُلدت قاصرة عن معالجة المشكلة السياسية بجذورها العميقة، وانصرفت إلى مداواة ظواهر المرضى.
صار الخوف كونياً، متعدد المصادر.
صار لبنان قضية عالمية، على رأس جدول أعمال القادة العظام، في الغرب وغرب الغرب وفي الشرق وشرق الشرق… والمسافة طويلة، و الحل لا يجد وسيلة نقل تحمله إلى بيروت.
… والخوف أن يتفجر الخوف قبل أن يتمكّن أصحاب المبادرات والمساعي الخيّرة من الاتفاق على الحل الموعود ، ثم من إيجاد من يحمله فتفتح له الطرق المقفلة للوصول به إلى ما تبقى من البلد البلا داخل فتستنقذ ما تبقى من الدولة قيد التأسيس التي يتزايد بين أهلها الشعور بأن بين شروط حياتهم أن يغادروها..
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 29 كانون الثاني 2007