طلال سلمان

في شوارع رفح … مخيمات وصرخات فرح!

غزة ـ حلمي موسى

أمس، وعلى الرغم من أنني في رفح منذ أكثر من أسبوع، وأعيش في منطقة متوسطة فيها، قريبة من مراكز السكن وأحياء رفح، وكثيرا ما أتردد على الأسواق، دوما يذهلني عدد الناس في الشوارع وفي الاسواق. وعندما وصلنا الى رفح من خانيونس، مررنا بكثير من المخيمات المرتجلة على طول الطريق من البحر حتى وسط رفح.

لكنني بالأمس، ذهبت مع أصدقاء الى مخازن الأمم المتحدة. أو المركز اللوجستي العام للأمم المتحدة، حيث يعيش آلاف الناس في مخازن الوكالة وفي طرقاتها الداخلية. وبحسب موظفة كبيرة في الوكالة، يوجد داخل حرم المخازن حوالي ٢٠ ألف نازح.

وعند الدخول إلى المخزن، يتكشف المنظر على مخيمات محيطة كلها مرتجلة ومكونة من أخشاب ونايلون. ومن المنطقة التي دخلناها من جهة حي تل السلطان، يمكن القول إن حجم المخيم قبل الوصول إلى محيط المخازن، لا يقل عن خمسمائة متر. ويقال إن في هذه المنطقة ما لا يقل أيضا عن عشرين ألف نازح. لكن ما رأيناه بعد الخروج من المخازن باتجاه الشرق، نحو طريق ميراج، كان مذهلا: طريق يمتد ما بين كيلومتر ونصف الكيلومتر والكيلومترين على الأقل، على جانبيه مخيمات ومخيمات تتوسع ولا تقل أو تتقلص. وبحسب التقديرات، يعيش في هذه المخيمات المرتجلة الجديدة ما لا يقل عن مئة ألف نازح.

تسمع الارقام فتصاب بالذهول. ترى المشهد فتزداد خوفا. كيف يمكن أن يعيش كل هؤلاء الناس في مثل هذه الخيام في الشتاء وتقريبا في العراء؟

والناس في هذه المخيمات هم من كل الفئات والشرائح. وقد أشار صديقي إلى سيارة “مرسيدس”، حديثة ومتسخة ومغبرة، مركونة بجوار إحدى الخيام. تشعر بمعنى مقولة “عزيز قوم ذل”. وتشعر بالأسى لتعليق أحدهم بأنه لو علمت شركة “مرسيدس” بحال هذه السيارة البائس، لمنعت تصدير سياراتها إلى هذا المكان. لكن الحقيقة ان حال هذه السيارة يدلّ على وضع أصحابها الذين هم أعزاء من معدن اصيل.

وفي طريق عودتنا إلى حيث نقيم، شاهدنا العديد من الأماكن الفارغة التي تقام فيها مخيمات صغيرة على قطع صغيرة من الأرض سمح أصحابها للنازحين بنصب مخيمات فيها.

لي صديق يُعدّ من أبرز المبادرين للخدمة العامة، أنشأ بمعونة أصدقاء مخيم إيواء، تسكنه حتى الآن عشر عائلات، وهو يبحث عن قطع أرض أخرى لتوسيع مبادرته.

بالأمس، وأكثر من أي وقت مضى، شعرت بالمعنى الحقيقي للنزوح والأضرار النفسية التي تحلّ بالنازحين. وقلت في نفسي ما كنت أسمعه من أهلي: “إن النزوح الاضطراري أمر لا تتمناه حتى لألّد اعدائك”.

اليوم، وفي طريق عودتي الي مكان إقامتي بعد تجوالي في مخيمات محيط مخازن الوكالة في رفح، مررت سيرا على الأقدام في الشارع الرئيسي. وكنت أنوي الوصول إلى محل لشراء بعض الحاجيات. وما إن دخلت المحل، حتى سمعت صرخات فرح في الطريق: “الاتصالات عادت!”

كان احساسي الأولي أن هذه الصرخات هي غالبا نوع من المزاح. ولكن كان الكثيرون يتحدثون بصوت عال ممزوج بالفرح والتساؤل عن عودة الاتصالات. فحملت هاتفي، وفعلا رأيت إشارتي شركتي جوال “واوريدو” الفلسطينيتين على هاتفي دليلا على عودتهما للعمل. سارعت للاتصال بصديق، لكن الرد المسجل بصوت مثير للحزن أكّد استمرار انقطاع الاتصالات مع جزء وأجزاء من قطاع غزة الحبيب، وأن الشركة تعمل على إصلاح الوضع. وحاولت مرة أخرى الاتصال بزوجتي، ولكنني تلقيت الرد المسجل نفسه. ثم فجأة، وصلني اتصال فتحته لكني لم أسمع شيئا.

المهم، بعدها وصلني اتصال وتمكنت من التحدث مع المتّصل.

هكذا، صارت عودة الاتصالات فرصة للفرح بعد انقطاع دام ثلاثة أيام كاملة ازدادت القناعة خلالها بأن الاتصالات، مثل الكهرباء، لن تعود.

لكن الاتصالات الخليوية عادت، وعندما وصلت لمكان إقامتي وجدت أن شبكة الانترنت الموصولة بشبكة الاتصالات قد عادت للعمل أيضا. وزادت فرحتي، لأنني كنت أضطر أحيانا لاجتياز مسافة كيلومتر أو أكثر، للحصول على الانترنت، والعودة.

ومن المؤكد انه ليس هناك ما يضمن استمرار عمل الانترنت والاتصالات. اذ تكرر قطعهما مرارا خلال هذه الحرب، وذلك للمرة الأولى في الحروب التي شهدناها في القطاع.

وكان من البديهي البحث عن بدائل، سواء عبر شرائح إسرائيلية أو مصرية أو حتى لدى البعض عبر شرائح esim الدولية. لكن كل تلك البدائل ظلت جزئية، ولم تشكّل بديلا عن الشبكات المحلية التي توفر التواصل بين كل الناس وليس بين فئات منهم فحسب. كما أنّها هي التي تتيح معرفة الأخبار ومتابعتها، فضلا عن أهميتها في التواصل مع الإسعاف والدفاع المدني الضروريان جدا في حالة الحرب لإنقاذ الجرحى أو انتشال المصابين من تحت الركام.

عموما، كانت عودة الاتصالات سببا للفرح في ظل قتامة الحزن المخيمة على الوضع العام في القطاع. فهي مكّنت الكثيرين من الاطمئنان على احباء لهم، كما انها سمحت بمعرفة مصير آخرين واخبارهم.

Exit mobile version