طلال سلمان

في ذكرى من لا يموت: غسان كنفاني..

أكتب إليكم من عكا
ما زلنا نعيش مناخات ذلك الصباح الأغبر ليوم السبت في الثامن من تموز 1972.
ما زلنا في موقع الشهيد، إذا ما أسعدنا الحظ، وفي موقع الضحية لطموحها المستحيل إلى حقها الذي يوغل مبتعداً عن مدى الأمل.
وفي موقع اغتيال الشهيد الذي صار عنواناً لبعض تاريخنا الحديث، غسان كنفاني.
تلقيت الرسالة الأولى من صديق العمر ورفيق السلاح وقد كتبها ـ بدمائه ـ من عكا في فلسطين التي كانت وما تزال وستبقى عنوان حاضرنا ومستقبلنا وركيزة وجودنا في أرضنا.
لقد عشت إلى جانب غسان كنفاني صديقاً وزميلاً وشريكاً في الأفكار. عملنا متجاورين في دار الصياد، وتشاركنا بعض المتع الصغيرة… وجمعتنا الصداقة إلى راحلين كبار منهم الدكتور جورج حبش وأحمد بهاء الدين وليلى عسيران وأمين الحافظ وبهجت عثمان وشفيق الحوت.
كذلك فقد عملنا معاً لبعض الوقت في مجلة «الحرية»، إلى جانب محسن إبراهيم ومحمد كشلي وياسر نعمه وأحمد خليفه، وهناك عرّفني إلى ناجي العلي والعديد من المناضلين العرب.
عرفته في «الأنوار» رئيساً للتحرير، وفي ملحقها الأدبي “فارس فارس” الناقد، الذي كان يتفوق على الكاتب والروائي المبدع في غسان كنفاني.
عرفته في «المحرر»، ثم في ذلك العمل النضالي الذي أعطاه اسم «ملحق فلسطين» الذي عرّفنا من خلاله على خميرة الأرض وضمانة الثورة، الكتّاب والأدباء الشعراء والباحثين والدارسين من أبناء الأرض المحتلة، فضلاً عن تاريخ المقاومة التي ولدت مع وعد بلفور وما تزال مستمرة وستواصل جهادها حتى التحرير، وإن خبت نارها أحياناً. عرّفنا إلى سميح القاسم وتوفيق زياد ومحمود درويش وسعيد أبو النحس المتشائل، كما إلى المدن والقرى ومواقع المواجهة بين السيف والروح.
ثم عرفته في المحطة الأخيرة، «الهدف» وقد أضاف إلى القلم البندقية.
هنا نص الرسالة:
“أكتب إليكم من عكا…
.. ومثلكم أنا، أكاد لا أصدق أني، أخيراً، عدت إليها فأمد بصري عبر نوافذ منزلنا إلى الجهات الأربع استوثق مستشهدا بالأبنية والحجارة والأشجار وبقايا السور والقلعة والبحر والهواء وأشعة الشمس وشباك الصيادين وكل الأشياء الصغيرة التي شكلت لي على امتداد أربع وعشرين سنة صورة المباركة فلسطين.
هذا بيت خالتي، بحجارته المقدسية المتوقدة التي تشبه أرغفة تخرج من الفرن، وعلى الحاجز الحديدي تدلت عرائش الـ«بواق» الأحمر.
لقد كبرت الياسمينة، بالفعل، يا خالتي… وزهراتها البيضاء المثلثة تحدق ـ كما العيون ـ في ما حولها باستغراب، تفتش عن وجه أليف، عن يد حانية، حتى إذا أعياها البحث التفتت إلى الحجارة السمراء تحضنها برفق وتلوذ بها.
وهذه هي الساحة الأمامية… كانت ملعبنا حين كنا..
والمصطبة. ويهدر في أذني صوت عمي حين رأى صورتها، مرة، فاستذكر واقعة قديمة. قال عبر ضحكاته:
«.. وهنا نزلت بقضيب الرمان عليك. أنسيت؟ جئت يومها تمشي وأنا جالس على المصطبة، وقلت لي: انظر ماذا وجدت! ورأيت بين يديك قنبلة يدوية، وكنت قد نزعت حلقتها. يومها وقف شعر بدني، وهجمت عليك وانتزعتها من بين يديك وقذفتها إلى الخارج. أنت لم تجدها أيها الملعون. لقد تسللت إلى غرفتي وسرقتها ولعبت بها، وسترك الله فلم تنفجر لسبب ما زال يحيرني. يومها نزلت بقضيب الرمان عليك في حفلة لم تعرف عمرك ما يماثلها».
أكتب إليكم من عكا،
وعن عكا تريدونني أن أحدثكم. أعرف، وأسمع الآن بوضوح حفيف أجنحة شوقكم إليها فوقي، إلى يميني، إلى يساري، خلفي وقدامي. سأصارحكم بشيء: رحلة العودة إلى عكا أقل مشقة وإرهاقاً من الشوق إليها. أم سعد قالت لي مرة: كن رجلاً فتصلها في غمضة عين، أما إن كنت لاجئا فلن تراها أنت، ولن يراها حتى حفدتك.
أقول لكم: إن الرجال كثرة هنا. كل الذين اختاروا ان يعودوا وصلوا فعلا. بعضهم جاء عبر النهر، وبعض عبر الجليل، وآخرون عبر الجولان. أما أبناء غزة وخان يونس ورفح والعريش فقد مدوا أجسادهم جسراً فوق خط الحدود القديم حتى امحى تماماً وعادت إلى التراب الوطني الفلسطيني وحدته الأبدية.
لعل بعضكم يسأل الآن أو يتساءل: …ومن أين الطريق إلى عكا، أو يافا، أو حيفا، أو القدس، أو جنين، أو طولكرم، أو قلقيلية أو أم الفحم أو الناصرة الخ؟!
ولست أعرف جوابا من خارج تجربتي، وتجارب الآخرين الذين التقيتهم هنا، لذا سأروي لكم ما حدث لي في ذلك اليوم الذي بات حدا فاصلا بين تاريخين في حياتي: اللجوء بذله الأبدي، والعودة ببشارة النصر فيها.
أفقت نشيطا ذلك الصباح: السبت في الثامن من تموز (يوليو) 1972.
أهي نرجسية أن نحس بشيء من السعادة؟
أفقت نشيطا ذلك الصباح: السبت في الثامن من تموز 1972.
وكنت منشرح الصدر، بشكل ما، كعادتي صباح كل سبت، موعد صدور «الهدف». أظنكم ستغفرون لي هذه النرجسية، لكن كل عدد من المجلة كان بالنسبة إلي خطوة على طريق العودة.
وكان لانشراحي اسباب اخرى، عائلية: فإلى جانب اخي مروان الذي وصل من القاهرة في اجازة قصيرة، تزورنا لميس نجم، ابنة شقيقتي فايزة المقيمة في الكويت. ثم إن «أم سعد» معنا اليوم، فغرف البيت عابقة برائحة الأم الزكية فيها.
خرجت إلى حديقتي الصغيرة أتفقدها، وسرعان ما هتفت مفجوعا: ـ أم سعد، النجدة يا أم سعد.
وجاءت إليّ مسرعة، وبنظرة واحدة أدركت الموقف: كان ثمة شجيرة ورد تموت بصمت. وقالت الأم الطيبة: فداك، سأغرس لك وردتين بدلا منها.
عدت إلى الداخل. حلقت ذقني وارتديت ملابسي، ثم دلفت إلى صالة الطعام متجنبا النظر في عينيّ لميس: أعرف ان العتب صار غضبا، فهي تريد ان تتسوق بعض الحاجيات، واليوم سبت، والمدينة تقفل ظهراً، وهذا هو خالها النشيط يهدر الوقت عبثا.
غمغمت آني بكلمات تأنيب، مساندة للميس، وخطف مروان «الكرة» بخفة: ـ لو جئتني في القاهرة لوجدت خالا عظيما، أما هنا…
مازحت فايز متقصدا استثارة غيرة ليلى، ونجحت خطتي فإذا بها تهجم عليّ وقد ضمت قبضة يدها الصغيرة، وهربت إلى الشرفة المطلة على بساتين الزيتون الخضراء في مار تقلا، فلحقت بي، لكنها حين بلغت مكاني نسيت غضبها ورفعت رأسها إليّ تسألني:
ـ بابا، بدي شجرة زيتون خضرا. هل تجيئني بشجرة زيتون خضرا؟
هززت رأسي بنعم، وقبل أن أدلف مع السؤال والوعد إلى دهاليز الحزن الاسود جاءني صوت لميس حادا كرأس الإبرة:
ـ خالي.. ألن نخرج اليوم يا خالي من هذا البيت؟
أتدرون: من المبهج ان يكتشف واحدنا، فجأة، انه قد غدا كبيرا بحيث صار عما أو خالا. لا، لا. انه لا يلغي إحساسنا بالشباب، ولكن يضيف إليه متعة الإحساس بمسؤولية ما عن الغير:
ـ أنذهب يا مروان؟
ابتسم الفتى الأسمر بمكر وقال: سأرافقكم، أجل، لأدرأ الشبهات عنك، فلو رآك الناس وحدك مع هذه الصبية باهرة الجمال لقالوا ان غسان كنفاني مراهق او زير نساء، ولاغتنمها الخصوم مناسبة للتشكيك بالجبهة الشعبية…
هبطنا السلالم معاً، وقبل أن نبلغ الباب تذكر مروان انه نسي فرشاة أسنانه، فانفلت عائدا ليأتي بها وحقيبة سفره الصغيرة تتأرجح في يمناه، بينما وجدت لميس الفرصة الذهبية لتسخر من خالها الآخر الذي «ينسى فمه» حيثما حل…
تبادلنا تحية الصباح مع ناطور البناية، فؤاد ابراهيم عقيقي، وعند مدخل المرأب طلبت من لميس ان تنتظرني ريثما «أسخن» السيارة، لكنها لحقت بي «حتى لا نضيع مزيدا من الوقت». كانت تريد ان تكون معي. ان تظل معي.
فتحت الباب. اتخذت مقعدي خلف المقود. مددت ذراعي أفتح الباب الآخر للميس. وعندما هممت بإدارة المحرك عادت إلى ذهني صورة سيارة «البي. أم. دبليو» العتيقة. لو انها كانت معي بعد، لكان عليّ الآن ان انتظر هبوط مروان، ونجدة الناطور لندفعها معا إلى أول المنحدر. أما هذه الأوستن الجديدة فممتازة: نقرة صغيرة ويهدر محركها كالعاصفة.
÷ ترجل الفارس
أكتب إليكم من عكا…
عكا التي أعرفها، بعد، وبرغم النفي والعذاب والتشريد والسجون والجوع إلى الوطن، بل ربما بسبب كل ذلك ما زلت أعرفها كما تعرف باطن راحتك: حجرا حجرا، بيتا بيتا، شارعا شارعا، ساحة ساحة، وأعرف أرضها شبرا شبرا وزيتونة زيتونة، وأعرف اكثر ما أعرف القبور… أليست هي سطور تاريخي؟!
كنت على موعد معها..
وكانت هي التي حددته، ولم أكن أعرف ميقاته بالضبط، فأمضيت أربعا وعشرين سنة أنتظره. لا، لم يقتلني الانتظار. كان الزمن يقربني منها أكثر فأكثر، يلصقني بترابها، ولما دوى الانفجار علمت انني قد عدت إلى رحمها، كرة اخرى، وأن عليّ أن استعد للحظة الميلاد الجديد.
كنت أعرف أني لن اعود إليها إلا إذا صرت مثلها..
وفي تلك اللحظة الفاصلة بين الدوي والتمزق لمعت أمام عينيّ الحقيقة كنصل سيف عربي: ها أنذا، أخيراً، في طريق العودة.
كنت أريد ان أهتف بأسرتي الصغيرة، وهي فوقي مباشرة، بكلمة اعتذار لأني سبقتها، وكنت أريد أن أطمئن إلى أن لميس لا تزال معي، وكنت أريد ان أتأكد من ان مروان قد جاء… لكن الزمن انسرب من بين أصابعي، وابتلعتني لجّة صمت شامل كالموت.
قلت لنفسي: ـ لقد جاءوا أخيراً.
وابتسمت بسعادة غامرة، فكثيراً ما كتبت متسائلا: أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ وها أنذا أترجل أخيراً وأدخل منزلنا في عكا من بابه الذي انفتح الآن على مصراعيه كذراعي أم تستقبل بكرها بعد عقم طويل.
÷ لماذا لا كيف؟
أكتب إليكم من عكا..
وأعترف بأن رسالتي الاولى لن تكون بالمستوى المطلوب، لكنكم بالتأكيد ستغفرون لي اضطرابي: ما أروع ان نعيش لحظة الميلاد الجديد.
كنت منثورا في الأرض كالبذار. لم أكن مزقا. كنت بذاراً لموسم جديد. ألم أحدثكم عن العودة إلى الرحم، كرة اخرى..
وجاءت أمي، فهتفت بي: بوركت ايها الفتى الطيب. كن شجرة مباركة في أرض لبنان. كن زيتونة تنفع الناس. كن زيتا يضيء مصباح مار تقلا حتى يمزق ضياؤه أستار الظلمة والظلم فلا يبقى في الأرض غير كل جدير بها.
كان ثمة كثيرون قد جاءوا أيضاً يزحمون المكان بالضجيج والأسئلة السخيفة: من؟ ماذا؟ لماذا؟ أين؟ متى؟
مرة قالت لي أم سعد:
«ـ ولماذا أنت حزين وغاضب؟ حين يموت الرجل فليس السؤال الذي يملأ رأسه هو «كيف» ولكن «لماذا». حين يموت الرجل الذي لا أرض له فليس السؤال هو أين يدفن، ولكن أين سيدفن أولاده، أفهمت يا ابن عمي؟
«قلت لها، يومئذ: ـ ليس هو يا أم سعد، ليس هو هو. إنما الامر كله نحن. حين يموت الرجل إنما يسقط على أكتاف الذين لم يموتوا بعد.
«قالت أم سعد: ـ ولو. أتعرف، يا ابن عمي، لماذا كانت صلاة الغائب؟ لأن الابطال لا يموتون على أسرّتهم. لأن الرجال يمضون إلى مصائرهم ويتصيدونها. لصلاة الغائب عندنا ثواب الحاضر. لاننا لا نصلي لجثة. أتفهم؟».
÷ نحن أقوياء
أكتب إليكم من عكا..
أكتب إليكم لأقول: نحن أقوياء هنا. نحن الذين عدنا أقوى منهم.
أكتب إليكم لأقول ما قالت لي أمي وهي تراني منثورا كالبذار في شعاب الحازمية، قرب بيروت. قالت لي:
ـ بوركت أيها الفتى الطيب. بوركتم جميعا يا أبنائي المزروعين في لحم هذا الوطن المثخن بالنزيف. ستكون نعوشكم المنفية علامات الطرق ونسغ الأشجار، وسبل الماء، وأيقونات الايمان، وأنصاب الميادين، وبوابات الحدائق، على عرض هذه القارة الممتدة من موريتانيا إلى ظفار.
كونوا غابات من الرماح المشرعة في وجه الشمس، المغروزة عميقا في بدن الصحراء الملوّحة بمزق راية الهزيمة، مثلما تنتثر اشلاء الشهيد في ميدان كبريائه البطل.
لقد بذرتكم، داخل عروشكم المنفية بطول هذه الأرض وعرضها، وجعلتكم هواءها ورئتها وقلبها الذي يدق بالنداء كما تقرع الطبول. لقد وضعتكم تحت جلد كل مدينة في بلادنا، ودفنت نعش كل منكم مثلما يدفن اللغم.
لقد علقتكم على عنق هذا الوطن كما تعلق القلادة.. وسأترك قلوبكم الحية تقرع في صدر هذه الأمة المغلوبة على أمرها وصاياها ونداءاتها..».
أكتب إليكم من عكا..
أكتب لأقول: ليس بالرصاص المطلق في الهواء، حزنا او فرحا، تعودون.
أكتب لاقول: ليس بالفرقة والتناحر تعودون.
أكتب لاقول: ليس عن طريق الانظمة العاجزة المحبوسة في قفص اللاسلم واللاحرب تعودون.
أكتب لاقول: ليس عن طريق الزعماء وهواة الزعماء تعودون..
أكتب لاقول: ليس غير السلاح طريقا، وليس غير الموت طريقا، وليس غير المعذبين في الأرض يرتضون رفقة السلاح ويقدرون على معايشة الموت. وأهون ألف مرة ان يدخل الجمل من خرم الإبرة من ان يدخل أمراء البلاد وأمراء الجهاد وأمراء البنوك ملكوت فلسطين.
أكتب لاقول: من عاد إلى عكا عادت إليه، ومن عاد إلى القدس عادت إليه، ومن عاد إلى سيناء عادت إليه، ومن عاد إلى الجولان عادت إليه.
أكتب لاقول: إن الطائفية لا تحمي أحداً، وإن الاقليمية لا تحمي وطنا، وإن الاجنبي لا يضمن الحياة لأمة ضن عليها ابناؤها أنفسهم بأسباب الحياة.
أكتب لاقول: ان عكا هي بيروت. ان عكا هي القاهرة. ان عكا هي دمشق وبغداد والرياض وصنعاء وتونس والجزائر ومراكش ونواكشوط.
أكتب لاقول: أنا أي واحد فيكم. الفرق الوحيد بيننا انني سبقتكم إلى العودة، فإن لم تضعوا أقدامكم على طريق العودة وجدتم أنفسكم، فجأة، في الخارج.. خارج المكان والزمان.
أكتب لاقول: الأرض هي الزمان هي الماضي، هي الحاضر وهي المستقبل. الأرض هي الحرية والمجد والكرامة والقداسة. ومن لا أرض له هباء تذهب صلواته، وجوعا هو صيامه، ففي حالة المنفى تندمج صورة الله بالأرض فيغدوان واحداً.
أكتب إليكم من عكا..
وأجد الجرأة الكافية لأن اقول: أنا بخير فاطمئنوا.
فأنا الآن في منزلي، ومعي هنا كثيرون ممن سبقوني إلى العودة.
ونحن بانتظاركم. ولن نطمئن حتى تصلوا عائدين.
عكا تشتاقكم، وكل المدن الأخرى، لا شيء نسيكم هنا. حتى صدى وقع خطواتكم على الأرض ما زال يرى، كأجنحة فراشات، في الهواء الندي.
أكتب إليكم من عكا..
عندي الكثير اريد ان اقوله لكم، لكني متعب الآن، ومبهور بفلسطين التي ضمتني إلى احضانها أخيراً، اريد ان اذوب فيها..
لقد كانت فلسطين «كلمة ذات صوت، مملوءة بنداء مقدس صارخ، تجوب الأرض كأرملة لم يؤخذ بثأر رجلها، تحمله على كتفيها وتصطبغ معه بالدم الذي لا ينقطع، ينهال من جروح كالعيون، ذات نظرات صارمة لا تقاوم، قادمة مع الريح ومع رجال يعرفون أكثر من الآخرين، ومع روائح الزيتون والبرتقال وحطين والشعر»..
أما الآن ففلسطين حقيقة ملتهبة كالشظية، تضيء كل الأمكنة، تعطي الزمان قيمته، وتحرق كل يد تمتد إليها عابثة أو طامعة.
أكتب إليكم من عكا..
أكتب لأقول: فلسطين الآن هي الثورة. ولن تروها إلا إذا دخلتم ذلك الأتون المقدس. ستظل على «بعد ذراع» منكم إلى الأبد، حتى تعبروا فوق جسر الفكر القادر على توجيه السلاح، وعلى تفجير طاقات الرجال والشعوب.
أكتب لأقول: ليس بغير الثورة يعود اللاجئ فلسطينياً، ويصير العربي إنساناً له الحق بالمشاركة في شرف العيش في القرن العشرين.
ولقد أسعدتني صورة فايز محمولاً فوق أكتاف الرجال، مرفوع اليدين بعلامة النصر، وكان مصدر سعادتي أنه كان يهتف: تحيا الثورة، تحيا الثورة…
لم يكن يهتف باسم شخص، او باسم تنظيم، او حتى باسم فلسطين.
وما زال لديّ الكثير لأقوله، لكنني متعب الآن، ولسوف أمارس المتعة التي تشهّيتها طول عمري: أن ارتاح في منزلي. وتلح عليّ الآن جملة قرأتها مرة: تكسب الحرب، يا بني، عندما تعود إلى منزلك.
تحياتي إلى الجميع، من عكا، وإلى اللقاء.
ملحوظة: فلسطين أجمل من ذكرياتي وأحلامي.
ملحوظة ثانية: هضاب عكا لا تقل جمالا عن هضاب خضرة الزيتون في مار تقلا بالحازمية.
ملحوظة أخيرة: الطريق إلى هنا وحيدة الاتجاه. الطريق اسمها «الثورة». احفظوا الاسم جيداً: الثورة. أكرر: الثورة.
تحياتي مرة أخرى: وإلى اللقاء.  

نشر في “السفير” بتاريخ 13 تموز 2012

Exit mobile version