طلال سلمان

في ذكرى خامسة لسقوط بغداد مفاضلة بين طغيان احتلال

من مفارقات زمن الانحطاط أنه يحلو لبعض العرب ، قادة دول و قادة رأي ، أن يقارنوا فيفاضلوا بين الطغيان والاحتلال الأميركي للعراق، فيخلصوا إلى تزكية الاحتلال، بل وإلى الاعتراف بفضله على المنطقة جميعاً وليس على العراق وحده.
ولولا شيء من الخجل أو الخوف لدعا هؤلاء إلى تعميم نعمة الاحتلال بوصفه الطريق الآمن إلى الديموقراطية والعدالة الإنسانية وتأمين حقوق الطفل!
وكأن جنرالات الاحتلال ليسوا إلا بعثات تعليمية جاءوا إلى بلاد لم تعرف المدرسة لكي يبشّروا بالعلم والحرية وحق الشعوب في الاستقلال مع الكرامة.
وكأن جنود الاحتلال ومرتزقة الشركات الأمنية هم أساتذة في هارفرد وجورج تاون وأوكسفورد وييل، وقد أوفدوا للارتقاء بمستوى التعليم.
وكأن حكّام الاحتلال، وأشهرهم اللص الدولي بريمر، هم من حملة جوائز نوبل للسلام، أو من المكافحين المعروفين بنضالهم من أجل تحرير الأرض والإنسان من الاستعمار، قديمه والجديد.
بل إن بعض القياديين العرب تحسّروا ولعلهم ما زالوا يتحسّرون على أنهم حُرموا من نعمة أن يولدوا أميركيين، وإن كانوا عقدوا العزم على الحصول على بطاقة إلى الجنة الأميركية، تبدأ خضراء، ثم تصبح رسمية وتؤهل حاملها لأن يكون سيد العالم..
بالمقابل فإن بعض الأخبث من هؤلاء القياديين صار يوحي للآخرين وكأن الجيوش الأميركية التي جاءت من أقصى الأرض إنما هي حشود لمرتزقة يعملون عنده ولحسابه وبإمرته، فإذا ما أتموا مهمتهم صرف لهم المكافأة نقداً أو نفطاً ثم أمرهم بالانصراف فينصرفون دون تردد!
أما بعض الأكثر سذاجة من هؤلاء القياديين العرب فافترض أنه من الدهاء والعبقرية بحيث يمكنه استخدام الجيوش الأميركية لحسابه ضد إيران، فتجيئه إيران طالبة رضاه، فيصير بذلك السيد المطلق لأغنى منطقة في العالم، باستخدام قواعد البليارد: اضرب طابة بالأخرى فتفوز بالجائزة!
على أن الحقيقة أن هؤلاء القياديين وبعضهم برتب لها ألقاب مجلّلة ومفخّمة، قد استقووا بالاحتلال على شعوبهم، فصار المعارض لهم من جماعة الطاغية صدام وعهده البائد، أو أنهم اكتشفوا فجأة أنه من القاعدة ، أو أنهم ضبطوه متلبساً بجرم المقاومة مما يجعله إيرانياً إن لم يكن بالجنسية فعبر ولائه المذهبي، حتى لو كان جده الصحابي سعد بن أبي وقاص!
… وهكذا تتكرّر المأساة الفلسطينية فصولاً: الاحتلال (الإسرائيلي) أكثر تقدماً وعصرية، ومن أخضعه الاحتلال بالقوة والقهر متخلّف وخارج العصر.. ولأن الفلسطيني متخلف، و إرهابي ، لا يؤمن بالديموقراطية ولا بحقوق الإنسان (حتى لو أجرى انتخابات مشهودة وبحضور مراقبين دوليين) فإن الاحتلال هو خلاصه من حرب أهلية، لا يهم أن يكون شعارها طلب تحرير الأرض ليقيم شعبها فوقها دولته وليبني تجربته.. الديموقراطية!
والحقيقة أن معظم الأنظمة العربية تقف مع الاحتلال الأميركي للعراق وتسانده فتغطي على جرائمه وعلى نهبه ثروات أرض الرافدين… فتكون في موقع المساند للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
.. وأن هذه الأنظمة تريد للاحتلال أن يبقى طويلاً، وأن يتمدد في أرض الجزيرة والخليج وصولاً إلى اليمن، وهي تفتح أرضها لقواعده الهائلة القدرات، بذريعة أنها تريد أن تطمئن لوجوده الدائم… إذ إن الاحتلال (الأبيض) هو مصدر طمأنينتها أمنياً وازدهارها اقتصادياً وتقدمها علمياً واحتلالها مكانة مميزة دولياً.
الاحتلال بشع وكريه. لكن الأبشع منه التبريرات التي يسوقها حكّام أذلاّء، وكتّاب و قادة رأي مأجورون أو هم يستشعرون في نفوسهم نقصاً، أو جبناء يشترون سلامتهم بالذل ثم يحاولون تعميمه.
إن الطغيان مدمّر للبلاد التي تقع في قبضته. لكن الاحتلال الذي هو في الغالب الأعم شريك للطغيان، يتآمر معه على شعبه وعلى جيرانه (بشهادة تجربة صدام حسين)، بل إنه قد يحرّضه على حزبه الذي أوصله إلى موقع القيادة، لكي يضعفه فتزداد حاجته إليه، حتى إذا حانت الساعة التي يراها الاحتلال مناسبة أزاحه وورثه بلا عناء…
لقد دخل الاحتلال الأميركي بغداد على حطام العراق، ومن الصعب افتراض البراءة في من حرّض وساند وفتح أرضه وخزائنه للمشاركة في تمويل هذه الحرب الظالمة التي أباد عبرها الاحتلال، حتى الساعة، أكثر من مليون عراقي، وشرّد أكثر من ثلاثة ملايين خارج بلادهم، ومثل هذا العدد تقريباً داخل بلادهم، وفي عملية تهجير لعلها الأوسع والأفظع في التاريخ الإنساني كله.
إن العديد من الحكّام العرب و قادة الرأي الذين تولوا التمهيد ثم التبرير، ثم تزيين الاحتلال واعتباره عملية إنقاذ كان لا بد منها ولو بجراحة قد تقضي على المريض ، يتحمّلون من المسؤولية عن هذه الجرائم مثل ما يتحمّل الاحتلال الأميركي (البريطاني) إن لم يكن أكثر.
إن جيش الاحتلال الأميركي هو الأقوى في العالم، لكن الغطاء العربي جعله شرعياً ، بل كاد يجعله ملاكاً حارساً ومخلصاً جاء لإنقاذ العراقيين من الدكتاتورية والطغيان وحكم الفرد واحتقار كرامة الإنسان، وكأن أولئك الحكّام من شركاء الاحتلال وموفري التبريرات والذرائع له يحترمون مواطنيهم، ولا يحكمونهم بالقهر والإذلال والإفقار المتعمّد، حتى إذا ما انتفض بعضهم كانت تهمة الإرهاب جاهزة.
إن هؤلاء الحكّام هم الذين زوّدوا الاحتلال بأقذر الأسلحة وأشدها فتكاً، وهي الطائفية والمذهبية والعنصرية وما اشتق منها..
وبالتالي فإن هؤلاء الحكّام هم الذين مدّوا ظل الاحتلال ليشمل أقطاراً أخرى خلف العراق وأمامه وإلى جانبه، ومنها لبنان.. أساساً، وفلسطين حيث يجري تمويه الصراع السياسي بالطائفية والمذهبية.. ولو مزعومة.
وليس مبالغة القول إن بعض هؤلاء الحكّام يعيشون على حساب إسقاط صدام حسين ونظامه.. مع أنه كان أقواهم وليس بالضرورة الأسوأ من بينهم.
وها أن المنطقة العربية تكاد تكون مفتوحة الآن لهيمنة الطغيان المحمي بالاحتلال، أو الاحتلال المموّه بالطغيان الداخلي، وهما شريكان يبدأ أولهما من حيث ينتهي الآخر، والعكس بالعكس.

Exit mobile version