طلال سلمان

<البريطاني بشع> في بيروت خطا سياسي كان يمكن تجنبة

تجيء زيارة رئيس الحكومة البريطانية، طوني بلير، إلى بيروت، اليوم، دليلاً فاضحاً على سوء التقدير السياسي، لبنانياً:
فالزائر المنتهية مدة صلاحيته في بلاده، والمطارَد باللعنات في مختلف أرجاء العالمين العربي والإسلامي بسبب من دوره القذر في الحرب الأميركية لاحتلال العراق، وبسبب من تحريضه على الفتنة، أمس، في فلسطين، لا يمكن أن يلقى الترحيب من اللبنانيين…
أبسط دليل هو أن الحكومة احتاجت، من أجل استقباله ولساعات قليلة، إلى إقفال قلب العاصمة، واستنفار المئات من رجال الأمن لمواكبته وحمايته من حب اللبنانيين وحرارة ترحيبهم بزيارته التي تسيء إلى لبنان كله، ولا تفيد الحكومة إلا في استفزاز الناس وهم يرون النسخة الثانية للأميركي البشع بين ظهرانيهم، والذي تريد أكثرية مواطنيه (58 في المئة) أن يستقيل قبل نهاية العام الحالي، بينما يريد 48 في المئة منهم أن يستقيل قبل آخر شهر أيلول الجاري؟!
إن استقبال الزائر السيئ السمعة هو نموذج مجسم للخطأ السياسي، سواء من حيث التوقيت، أو من حيث انتفاء المصلحة، أو من حيث البوابة التي يجيء منها هذا الملتحق بالإدارة الأميركية، والذي اعتبر ثلثا البريطانيين أنه قد خدعهم بشكل متعمّد، أو غير متعمّد، حول مسألة الحرب ضد العراق… وأخيراً: هذا الذي فتح المطارات البريطانية لاستخدام الطائرات الأميركية وهي تنقل الأسلحة، وبينها القنابل الذكية إلى إسرائيل لتلقيها على الإنسان والعمران في لبنان، قبل أسابيع قليلة.
فليست إسرائيل هي البوابة المناسبة، لا سيما في هذه الأيام (!!) لكي يأتي منها طوني بلير إلى لبنان الذي ما زال يحصي شهداءه ويلملم جراحه ويجمع خسائره في البنية التحتية نتيجة الحرب الإسرائيلية عليه دولة وشعباً، والتي لما تتوقف بعد..
وليس يوم 11 أيلول هو الموعد المناسب، بكل ما تثيره مصادفة وقوعه في الذكرى الخامسة للهجوم الإرهابي الذي شنه تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة الأميركية، لكي يأتي هذا المسؤول البريطاني الذي لعب دوراً تحريضياً مؤثراً في استصدار القرار الأميركي بتجديد الحرب الصليبية ، كما وصفها جورج بوش في واحدة من زلات لسانه ، والذي قرأه العرب والمسلمون وكما تبدّى لاحقاً حرباً عليهم جميعاً، دولاً وحكومات اعتدال وتنظيمات سياسية وأحزاباً وجموع الطامحين إلى التغيير بالديموقراطية، معتمدين على مساعدات موعودة (!!) من العالم الحر .
… ولا يكفي أن يزكي الرئيس الأميركي بوش الزيارة وأن يعتبر أنها تأتي في الوقت المناسب لكي يخرج اللبنانيون إلى الشوارع للترحيب بمن وصفته جريدة الغارديان البريطانية المؤثرة والرصينة ب الكذّاب ، ومن يصفه الكثير من رجال السياسة والإعلام البريطانيين بأنه ذيل الكلب في إشارة إلى التحاقه بجورج بوش، ومن بلغ الأمر ببعض من وزراء حكومته إلى وصفه ب المضلِّل و مطلق العنان لأهوائه .. في حين رأى وزير الخارجية الأسبق مالكوم ريفكند في تصريحات بلير أنها إما غبية أو بلهاء !
ثم، ما مصلحة لبنان عموماً، وحكومته خصوصاً، في زيارة هذا الضيف غير المرغوب فيه، وبهذا التوقيت بالذات، والتي استفزّت حتى المعتدلين من قادة الرأي والذين لم يشتهروا بمواقف عدائية ضد الغرب بالمطلق، (المرجع السيد محمد حسين فضل الله، مثالاً)؟
إنها زيارة ستتحوّل إلى عبء على كاهل الحكومة، بشخص رئيسها، إذ أنها ستزيد الانشقاق السياسي حدة، داخل السلطة وخارجها، وعلى قاعدة مختلفة الآن: فالترحيب بطوني بلير هو ترحيب بمن يخلط بقصد مقصود، وبوعي، بين الإرهاب والمقاومة، وبين سلاح التحرير وسلاح القتل المدمر الذي يقتل أول ما يقتل القضية التي يدعي الدفاع عنها.
ما مصلحة لبنان في أن يستقبل مسؤولاً بريطانياً يرى فيه شعب العراق معاون الجلاد الأميركي، الذي احتل العراق بذرائع ثبت تلفيقها، ثم سعى لشغل العراقيين بأنفسهم، فحرّك بينهم عوامل الفرقة مذكياً الانشقاق العنصري، بين العرب والأكراد، ثم اندفع إلى التحريض على الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، مستخدماً شعار الفيدرالية لإغواء من يتطلع إلى السلطة ولو على حساب وطنه، وموفراً الفرصة (وربما المدد) لبعض الفصائل التي لا يمكن تبرئتها من احتراف الإرهاب لتدمير العراق وتمكين الاحتلال من شعبه بعد تمزيق وحدته وأواصر الوطنية والدم والقربى والمصالح المشتركة؟..
ما مصلحة لبنان في أن يستقبل هذا البريطاني البشع الذي لم يتورّع يوم أمس بالذات، عن تحريض رئيس السلطة الفلسطينية ضد حكومتها برئيسها وأعضائها، والذين اعتقلت سلطات الاحتلال بعضهم إضافة إلى إقدامها على اعتقال رئيس المجلس التشريعي ومعظم أعضاء هذا المجلس المنتخبين ديموقراطياً ووفق المواصفات الأميركية (والبريطانية ضمناً)؟!
إنها زيارة شؤم تنذر بنقل الخلاف السياسي المحتدم إلى الشارع، وتزيد الشرخ اتساعاً بين اللبنانيين، وتضيّع نصراً تاريخياً تعاني إسرائيل من وطأته، وتضطر حكومتها إلى محاولة الدفاع عن هزيمتها بتشكيل لجان تحقيق قضائية وعسكرية لتحديد أسبابها والمسؤولين عنها في الحكومة أساساً ثم في قيادة الجيش؟!
إن هذا الضيف الثقيل لا يأتي حاملاً المساعدات لإعادة إعمار لبنان، ولا هو شريك في قوات اليونيفيل، ثم إن الرأي العام في بلاده يعتبره المسؤول عن عزلة بريطانيا بسبب موقف حكومته من الحرب على لبنان.
ثم إنه مجرّد حامل رسائل أو مجرّد مسهّل للسياسة الأميركية ، وهو لم يعد يستطيع تحسين صورته كمشجع على القتل في فلسطين وفي العراق ، كما أنه أضاع فرصة ثمينة، فقد كان عليه أن يستعيد شيئاً من السمعة بالافتراق عن بوش، طالما أنه سيتقاعد، لكنه لم يفعل ، كما يقول فيه بعض كبار المحللين السياسيين البريطانيين.
إنها زيارة لا تستحق كلفتها، وهي تسيء إلى الداعي وإلى من يشارك في الاستقبال أو لا يقول في الزائر ما يستحقه، وانطلاقاً بداية وانتهاءً من موقف طوني بلير من الحرب الإسرائيلية على لبنان، ومع تناسي دوره القذر في حرب الاحتلال الأميركي للعراق والتي تكاد تدمّر مستقبل العرب في كل أرضهم، خصوصاً إذا ما قرئت نتائجها في فلسطين وفي لبنان.
إن الزيارة، باختصار، خطأ سياسي كان يمكن تجنبه.

Exit mobile version