طلال سلمان

في انتظار اكتمال مبادرة

وحده المكابر أو المتوهّم أنه في موقع الانتصار نتيجة اغتيال عظيم في حجم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، هو الذي لا يستشعر في هذه الأيام السوداء خوفاً كثيفاً على لبنان، ومن بعده على أهله الأقربين، بل وعلى مجمل أهله.
وبديهي أن يعبّر رجل مسؤول مثل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، عن مثل هذا الخوف متعدد المصادر والذي تشكل »الفتنة« أخطرها، خصوصاً في ظل انهيار الجدران أمام التدخل الدولي وتناثر الكثير من أسباب المنعة والحصانة مع أشلاء رفيق الحريري وصحبه في تلك الظهيرة من منتصف شباط.
وعندما جاء عمرو موسى إلى بيروت، لوداع صديقه الكبير رفيق الحريري، وجد فيها مدينة غير التي يعرفها، ليس فقط بسبب اتشاحها بالحزن العميق، بل أساساً بسبب انكسارها وضياعها وافتقادها لغتها الأصلية.
إن بيروت تشعر بأن الاغتيال قد استهدفها كعاصمة عربية وهاجة البريق، فكراً ونشاطاً اقتصادياً، ثقافة وسياحة، فناً وإعلاماً، وحيوية سياسية دافقة… وبهذا المعنى فقط طال اغتيال رفيق الحريري بعض أبهى ما في لبنان كله، ومن هنا ان البيوت جميعاً قد جللها القلق على المصير.
بل إن بيروت تكاد تنكر نفسها والشعارات تدوي فيها بخلاف ما كانته عبر تاريخها.
وأمرّ من ذلك وأدهى: أن بيروت تكاد تشعر بأن الاغتيال استولد أو أنه برّر اجتياحاً لها بشعارات غريبة عن طبيعتها… فلم يكن أبناؤها يتصوّرون أن ترتفع في جنباتها وفوق تمثال الشهداء فيها (أولئك الذين قدموا أرواحهم من أجل تحرير هوية لبنان العربية وليس أرضه فحسب) لافتات وصور لأكثر رموز الحرب الأهلية إثارة للجدل والشبهة والاتهام والإدانة بالتعاون مع العدو الإسرائيلي.
وكان مستحيلاً على بيروت أن تفصل بين شعارات النهار الصاخب وكلمات الرئيس الأميركي جورج بوش مساءً عن »الاحتلال السوري« وضرورة »جلائه« عن لبنان تمهيداً لإجراء انتخابات تبرّر إدراجه في خانة الديموقراطيات ومنح شعبه شهادة حسن سلوك ممهورة بتوقيعه المفخم.
وكان موجعاً لبيروت أن يتحوّل »الوجود السوري« من مطلب شعبي، في فترة سابقة، إلى »احتلال« يطالبه بالجلاء أساساً بعض الذين استنجدوا به واعتبروا قدومه انتصاراً لهم على »خصومهم« المهزومين.
هل تضخم حجم الخطأ إلى هذا الحد؟!
هل التهمت الخطايا إيمان الناس بأرضهم وهويتهم، فصاروا غير ما كانوا وخرجوا على ما كانوا يعتبرونه من البديهيات؟!
هل باتت الأخطاء تشكل مدخلاً للأخطار؟!
هل تمّ اغتيال هوية لبنان وسلمه الأهلي وعلاقته بسوريا مع اغتيال رفيق الحريري؟
هل مقدّر على هذا البلد الصغير أن تأتي مآسيه متواكبة، تأخذ الواحدة بعنق الأخرى حتى يكاد يتوه داخل أحزانه ويفتقد الثقة بالغد؟!
وهل عز من ينجد لبنان فيحمي هويته التي هي ضمانة وحدته؟!
وأين سوريا، المتخوّف مواطنها من القدوم إلى بيروت، لا تبادر بشجاعة قيادتها الشابة إلى حسم الأمر، فتنهي هذه البلبلة التي تختلط فيها الحقائق بالأوهام والوقائع بالشائعات المغرضة؟!
إن ما نقله الأمين العام للجامعة العربية عن الرئيس بشار الأسد، بعد لقائه في دمشق أمس، يفتح الباب أمام المبادرة المطلوبة، وبإلحاح، لإنهاء هذا الاضطراب الذي يعيشه، والذي يأخذه إلى التمزق.
لا أحد يريد لسوريا الهزيمة، ولا سيما في لبنان.
لكن أجواء الاحتقان التي عززتها جريمة اغتيال رفيق الحريري، ذلك القومي العربي الذي لم يغادر عروبته، ولا هو فرّط بإيمانه بضرورة التكامل مع سوريا، ولا وهن إيمانه بضرورة أن يتحمّل لبنان واجبه في تعزيز صمود سوريا بقدر ما تعمل سوريا لحماية وحدته واستقراره،
… إن أجواء الاحتقان الداخلي هي أفضل استثمار للتدخل الخارجي، وهي في الوقت عينه المناخ المؤاتي لمن يريد الاستعانة بالفتنة على الوطنية، وطلب الحماية الأجنبية لإجلاء الشقيق العربي.
إن المبادرة مطلوبة من دمشق، »قلب العروبة النابض« كما كان يسميها العرب جميعاً وليس أهلها فحسب.
ومتى تهددت عروبة بيروت فلسوف يعتل في دمشق ذلك القلب الذي يريده كل اللبنانيين نابضاً بالصح دائماً.
وعسى عمرو موسى يكون حامل البشارة بهذه المبادرة التي يتلهف اللبنانيون (والسوريون) لاستكمالها من أجل طي الصفحة السوداء في تاريخ العلاقة بين البلدين اللذين لا يمكن أن يهنأ أحدهما طالما كان ثانيهما مقهوراً.
ومثل هذه المبادرة المرتجاة يمكن أن تشكل هدية ممتازة لروح رفيق الحريري الذي أحب دمشق وعمل لها بقدر ما أحب بيروت وعمل لها وفيها.

Exit mobile version