من حق رئيس الحكومة البريطانية السيدة تيريزا ماي أن تفخر بالذكرى المئوية لوعد بلفور، باعتباره انجازاً تاريخياً للإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس بمستعمراتها في اربع رياح الارض..
لقد أعطى وزير الخارجية البريطاني، آنذاك، اللورد آرثر جيمس بلفور، وعداً لقادة الحركة الصهيونية بأن تمكنهم بلاده العظمى من اقامة “وطنهم القومي” فوق ارض التاريخ، فلسطين، وعلى حساب شعبها الذي كان على مر الزمان شعبها، بالأكثرية العربية الساحقة فيه، مسلمين ومسيحيين، والاقلية اليهودية التي لم تتعرض يوماً لاضطهاد او عنصرية او تمييز بسبب العرق او الدين.
كان العالم مشغولاً بالحرب العالمية الأولى ودول الحلفاء بقيادة بريطانيا ومعها فرنسا وبعض دول اوروبا تقاتل “دول المحور” بقيادة المانيا ومعها تركيا التي لم تعد امبراطورية ولا سلطنة عثمانية، كان الحلفاء يحققون انتصارات ساحقة، خصوصاً في مشرقنا العربي حيث لم تكن ثمة دول، بل ولايات منهكة بالجوع والاستعباد والتجنيد بالقوة في حرب محكومة النتائج سلفاً… خصوصاً بعد انضمام الولايات المتحدة الاميركية إلى “الحلفاء”… تزامنا مع تزايد الحديث عن ظهور ادلة تبشر بنفط غزير في شبه الجزيرة العربية امتداداً إلى العراق.
في سياق آخر، وبالتزامن مع مجريات الحرب، كانت بريطانيا قد شجعت الشريف حسين امير الحجاز على الخروج على تركيا، واعلان “الثورة العربية الكبرى” والمناداة بالوحدة العربية واستعادة امجاد الماضي، ليكون ملك العرب جميعاً.
قد تبدو الصورة كاريكاتورية بتفاصيلها الموجعة: تشجع بريطانيا الشريف حسين على أن ينادي “بثورة” عربية تحررية!! تجعله ملكا على البلاد العربية جميعاً، وترسل جاسوسها الشهير توماس ادوارد لورنس ليكون مستشاراً للأمير فيصل بن الشريف حسين، في حملته الدبلوماسية، ثم العسكرية ضد القوات التركية، ثم تنصبه ملكاً على سوريا وبعض لبنان (ما عدا المتصرفية).. قبل أن تتركه وحيداً في مواجهة قوات حليفها الفرنسي وهو يطبق على هذه “المملكة” التي استولدت بلا سند او مقومات جدية.. والتي سيهزم فرنسا جيشها الوليد الذي يقوده ضباط كانوا اصلاً في الجيش التركي قبل أن ينشقوا عنه ليلتحقوا بـ”الجيش العربي” ضعيف العديد والقدرات، ومع ذلك فقد استبسل حتى الشهادة في ميلسون التي تشهد ليوسف العظمة بالبطولة التي عجزت بسلاحها القليل عن مواجهة الجيش الفرنسي القوي والحديث، والذي دخل دمشق ظافراً… بينما انقذ الملك فيصل نفسه بالهرب، في القطار الذي كانت انشأته المانيا، إلى البادية السورية ومعها مستشاره لورنس..
ولقد كافأته بريطانيا بعد حين بأن حملته إلى بغداد حيث جعلته ملكاً على العراق، في حين جعلت شقيقه عبدالله اميراً على شرقي الاردن بعد فصل هذه البادية عن “الوطن الام” سوريا، ليكون سنداً لمشروع كان ـ حتى تلك اللحظة ـ طي الكتمان: دولة اسرائيل “وطنا قومياً ليهود العالم” على حساب فلسطين بهويتها وانتماء شعبها الذي كان عبر التاريخ شعبها فيها.
كان لوعد بلفور، اذن، ثمنه العربي: مصر بعيدة، والجزيرة العربية قبائل متصارعة، قبل أن يقرر الغرب (الاميركي الآن) اعطاء الحجاز ومعها نجد والشرق والجنوب وصولاً إلى الظهران والربع الخالي حتى حدود اليمن لآل سعود كي يقيموا مملكتهم… والعراق ومعه الاردن فضلاً عن فلسطين (تحت الانتداب) لبريطانيا.. أما سوريا ولبنان لفرنسا، بعد تعديل “الحدود”، وضم ما كان يعرف “بالأقضية الاربعة” ـ أي بيروت والجنوب والبقاع والشمال ـ إلى متصرفية جبل لبنان التي كانت “كياناً مستقلاً” ضمن السلطنة، ولكنها تحت “الرعاية الغربية”، يعين الاتراك “المتصرف” ـ المماثل للوالي ـ بشرط أن يكون مسيحياً، من رعايا السلطان العثماني..
صار المشرق العربي ارخبيلاً من الكيانات السياسية التي قرر المستعمرون (بريطانيين اساسا وفرنسيين، ثم اميركيين) حدودها وطبيعة انظمتها: سوريا ولبنان جمهوريتان، والاردن امارة هاشمية، والعراق مملكة هاشمية، اما السعودية بأرضها الشاسعة الغنية فأقطعت لآل سعود بشخص الملك الاول منهم عبد العزيز آل سعود بشراكة مع المرجعية الدينية للإمام محمد عبد الوهاب (وهو مؤسس الحركة الوهابية التي قاتلتها السلطنة العثمانية وكلفت واليها في مصر، في اوائل القرن التاسع عشر، محمد علي باشا، بالقضاء عليها.. فهاجم ابنه ابراهيم باشا الرياض وتوجه إلى “الدرعية” مقر الداعية ـ الامام ومركز دعوته، فدمرها وطارد دعاتها وقتل وسجن وشرد التابعين..)
بعد حوالي القرن، استطاع ورثة سعود الاول، من اتباع محمد عبد الوهاب، أن يهزموا آل الرشيد، وان يطردوا الهاشميين، وان ينشئوا المملكة العربية السعودية بقيادة عبد العزيز آل سعود.. الذي سيلتقي الرئيس الاميركي روزفلت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، على بارجته الحربية في قناة السويس، ويعقد معه الاتفاق الذي سيدوم حتى اليوم، ويتعزز مع تفجر تلك الصحارى بالنفط الغزير الذي أهل السعودية لان تكون اكبر مصدر للنفط بعد الولايات المتحدة الاميركية.
*****
هذه نتف من التاريخ الذي حول احلام الوحدة، عبر رهان السلاطين والامراء والشيوخ وقادة الاحزاب من الطامعين في السلطة، والمستعدين لنقل البندقية من كتف إلى آخر، إلى كوابيس انفصالية وحروب اهلية ودول كرتونية، بعضها يقوم على آبار النفط، وبعضها الآخر على آبار الغاز… ويلغي الدول ذات الدور التاريخي، او يخفف من ثقلها ومرجعيتها، كمصر اساسا ومعها سوريا. ويفسح المجال امام دول لم تكن في أي يوم دولاً، وليست لها لا الشرعية التاريخية ولا الثقل الشعبي ولا الدور الحضاري الذي يضيف إلى تاريخ هذه الامة، بدلا من أن يشوهه او يقزمه او يتسبب في اخراجها من التاريخ..
*****
من حق السيدة ماي رئيس حكومة بريطانيا، اليوم، أن تعتز بإرث وزير خارجية الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، الذي استندت اليه الحركة الصهيونية، في تحشيد يهود العالم، واستغلال بعض الوقائع الدموية التي استهدفت اليهود في بعض انحاء اوروبا، وفي المانيا اساساً بما في ذلك “المحرقة”، لتبرير “التعويض عليهم” في البلاد العربية حيث كانوا “مواطنين” طبيعيين، بينهم اثرياء كبار وتجار معروفون ومثقفون محترمون، يعيشون جميعاً بين اخوتهم العرب مسلمين ـ بمختلف طوائفهم ـ ومسيحيين ـ بمختلف طوائفهم ـ دون تمييز او تفرقة.. وبالطبع دون أي اضطهاد.
لقد ثأر الغرب الاوروبي ومعه الولايات المتحدة الاميركية من الدول التي قاتلتهم في الحرب العالمية الثانية بقيادة المانيا النازية (ادولف هتلر)، فابتلوا العرب الذين كانوا بين ضحاياها بمحنة اقامة الكيان الاسرائيلي فوق الارض العربية، فلسطين، وعلى حساب الحقوق التاريخية الثابتة لشعبها فيها..
… وما زال العرب، بعد قرن من الدمار، يدفعون ثمن وعد بلفور، الذي لم يعرف العالم بنصه ومضمونه وظروف اطلاقه، الا بعد الثورة البولشيفية (الاشتراكية) في روسيا التي انهت حكم القياصرة، وكشفت الوثائق السرية المحفوظة في وزارة خارجيتها… ومن بينها “الوعد الذي اعطاه من لا يملك لمن لا يستحق”، أي وعد بلفور لليهود بمساعدتهم على اقامة “دولة اسرائيل” على حساب شعب فلسطين (وأهله العرب) وحقه في ارضه التي كانت ارضه عبر التاريخ..
…ومن حق اسرائيل أن تحتفل كل عام بذكرى هذا الوعد الذي “اعطاه من لا يملك لمن لا يستحق”، تاركة للعرب أن يلعنوا غباء حكامهم او تآمرهم او تخلفهم وكل ذلك قد أدى (وقد يؤدي مستقبلاً) إلى التفريط بالأرض المقدسة وحقوق اهلا فيها..
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق