طلال سلمان

فيصل حوراني ودروب منفاه

منذ نصف قرن تقريباً وفيصل حوراني يمشي على »دروب المنفى« حاملاً وطنه الفلسطيني في ذاكرته، مجتهداً في المحافظة على توازن ما بين المختزن الذي سوف يعجز عن استرجاعه، وبين المأمول الذي سيعجز عن تحقيقه وهو يتسلق الوعر في رحلة »الصعود الى الصفر«.
من »المسلمية« في قطاع غزة تبدأ المسيرة الفاجعة، ثم تكون دمشق المحطة التي يقفز فيها الطفل اليتيم والفاقد إحدى عينيه بحيث تكاد تكتمل لوحة المأساة الوطنية العامة بالألم الشخصي المر، الى شبابه عبر المسجد والنكبة والكتاب والتنظيم والبؤس والشقاء العائلي وأحلام الاشتراكية والوحدة والتحرير.
في دمشق المضطربة بعذابات السقوط في فلسطين، والمتطلعة الى الديموقراطية عبر الانقلابات العسكرية التي توالت اثر النكبة مباشرة، والهاربة من إخفاقاتها السياسية الى الوحدة مع مصر عبد الناصر بعد عشر سنوات فقط من الهزيمة القومية الكاسحة.
في دمشق المسجد الاموي ووعاظه، المسيس منهم والمشغول بإيمانه عن الدنيا، وفي أحيائها الشعبية المتقاربة بيوتها كأنما لحماية تاريخها المنسحب من دنيانا، في دكاكينها ومقاهيها وأزقتها، في الفرن والجورة ومكتب المحامي، وعيادات وكالة غوث اللاجئين التي كانت قد غدت بديل »الدولة« بالنسبة إلى الفلسطينيين، في المدارس وعلى باب الجامعة حيث كانت التظاهرات تغزل الاحلام بالتغيير عبر الصدام برصاص رجال الشرطة المكلفين حماية الدكتاتورية،
في دمشق هذه تعرفت الى فيصل حوراني، ولكنه حجب عني معرفته التفصيلية والحميمة بها.
فأما فلسطينية فيصل حوراني فقد ظلت سليمة برغم تنقله، فكرياً، بين البعث والماركسية وصولاً الى التسليم بالتسوية الأميركية وعلى قاعدة الشروط الاسرائيلية التي تمثل الوجه الآخر للهزيمة العربية.
ولقد اخذت بشخصية فيصل حوراني المحددة، الصريحة، المباشرة، كما اخذت بثقافته العامة التي جعلته عميق الإيمان بالمسلّمات التي اقام عليها غمد موقفه من الحياة عموماً، بالسياسة فيها والفن والأدب والعلاقة بالآخرين.
وبرغم الظرف والمرح والبساطة التي كانت تدمغ تصرفات فيصل حوراني وتشكل عنصر إحراج للمستجد في صداقته، فلقد كانت المرارة المتكدسة في اعماق روحه تطل عبر احكامه، وتضع حاجزاً يصعب اختراقه سواء بالنقاش الفكري أو بالممارسة العملية، أمام من لا يرغب في توثيق الصلة بهم.
وظلت شخصية فيصل حوراني، بكل ما تحمله من اضطراب داخلي ومرارات تطفو على السطح مغلفة بنقده اللاذع لمجريات الحياة العامة، تشغلني وأنا أتابعه يتنقل بقلقه بين دمشق وبيروت، ثم قبرص لينتهي بعد رحلة مضنية (اغلب الظن انها لا تزال مفتوحة) في فيينا بالنمسا.
كنا نلتقي دورياً، في دمشق، وفي بيت فيصل حوراني بحي حي الروضة.
فمع فيصل وفي بيته تعرفت الى نخبة من مثقفي سوريا، وفلسطين ومصر، واستمعت الى مناقشات احتدمت احياناً فكادت تبلغ حد الاشتباك، ورقت احياناً اخرى فداخلها الشعر.
ومع فيصل حوراني ذهبنا، عشية حرب تشرين (1973) بصحبة اللواء محمد الشاعر، وكان المسؤول عن التحصين، فتجولنا في بعض انحاء الجولان، والتقينا ضباطاً وجنوداً كانوا يعيشون حالاً من التأهب عشية ساعة الصفر، يواجهون الغارات الجوية الاسرائيلية والطلعات الاستكشافية، ولا يظهرون من اسلحتهم الا المعروف والمألوف.
على ان المشهد الذي لن انساه ما حييت هو ذلك الذي عشته مع مجموعة من الاصدقاء مع فيصل حوراني في القاهرة.
كنا معاً لحضور احدى دورات المجلس الوطني الفلسطيني، فيصل كعضو ومصطفى الحسيني ومصطفى نبيل وأنا كفضوليين عرب..
طلب الينا فيصل بلهجته المحايدة ان نصحبه، اذا ما رغبنا، لكي يتعرف إلى اخوته غير الاشقاء الذين لا يعرفهم، ولكي يسلم على أمه التي كان قد انفصل عنها وهو طفل، ثم شردتهما النكبة في العام 1948 كلاً في اتجاه، ولم تتيسر بعد ذلك فرصة للقاء.
ذهبنا جميعاً، ووقفنا مشدوهين نتابع وقائع اللقاء الباكي الضاحك الحميم.
ولولا فيصل بشخصيته المحددة وقدرته الفائقة على ضبط مشاعره لتحول اللقاء الى بكائية طويلة، ولكنه بسرعة دخل في الشق العملي من الموضوع فسأل عن كل شيء، وروى لهم وطمأنهم عن الآخرين.
وبالتأكيد فإن أياً منا قد اظهر من التأثر اكثر مما اظهره فيصل.
ها هو فيصل حوراني يعود إلينا ويأخذنا في الرحلة المعاكسة، مسترجعاً تفاصيل التفاصيل عن تلك الملامح، ملامح فلسطين التي استعصت على الذوبان وتستعصي الآن على التدجين الممهد لشطبها من الخريطة.
من ذاكرته الحية والمذهلة في حمايتها لكل تلك التفاصيل التي تكاد تعيد تشكيل الوطن، يدلق علينا فيصل حوراني فلسطينه والقصور الذاتي والعجز العربي، مستعيداً بدقة عجيبة الوقائع الفاجعة لتلك الايام التي لا يبدو ان لها خاتمة سعيدة، في المدى المنظور.
يخرج الوطن من الذاكرة نابضاً بأهله، شيوخاً وأطفالاً، رجالاً مثقلين بالهمّ ونساء مقرّحات العيون ببكاء الفراق الذي لا لقاء بعده.
وتطل مع عذابات الوطن حال الأمة فإذا الضياع يتجاوز الافراد ليمس مصير »الدول« ذاتها.
فيصل حوراني لا يؤرخ. انه يطرح على الصفحات البيضاء الجراحات النازفة بعد، لجيل ولدته الهزيمة، وكافح ضدها طويلاً، ولكنه مهدد بأن يقضي مختنقاً داخل قوقعتها ما لم يستطع فتح ثغرة في ليلها الساجي والممتد كأنما بامتداد التاريخ.
»الصعود الى الصفر« هو الجزء الثاني من »دروب المنفى«، وهي رواية لما كان يأمل فيصل حوراني ان يشكل منه حكاية رحلة العودة الى الغد، لكن »السياسة« جعلتها مجرد توغل في الامس.
لكن فيصل ما زال يسعى الى غدٍ مختلف.

 

عرس الماضي

وشى بها عطرها من قبل ان يلفّه دفء صوتها الهامس بالتحية:
صرنا نسكن ذاكرتنا، فلا عذر لنا في ان ننسى.
رفع رأسه فإذا هي وصورتها العتيقة أمامه، وإذا هو غارق في مقارنة سريعة بين ماضيهما وحاضرهما. وقالت من داخل افكاره: من تغير بيننا اكثر؟ لا يهم ما ضاع، المهم ما بقي.
ردد جمل ترحيب باهتة فلطمه صوتها الغاضب:
أما زلت تخاف؟ وممّ تخاف؟ وممن تخاف؟ ما جئت بعد كل هذه السنين لأغتصبك، فاطمئن. سأجلس بعيدة بحيث لا تطالني يدك او ظنونك. اهدأ. إنما اتيت لغرض وليس بدافع الشوق. لقد اقمت في صدري مدفناً مهيباً لعواطفي وعشاقي ورغباتي، وأبقيتك خارجه ليس بدافع الحب، بل إشفاقاً على ضعفك.
كان يحملق فيها، بعد، يتملّى ملامحها ويستقرئ اثر السنين على وجهها الصبوح… وسمعها تقول:
جئت ادعوك الى عرس ابنتي. خفت ان تكون قد نسيت الاسم، أو أن يشدك اسم الصهر بعيداً عني لأنه الأقرب الى يومك فجئت بنفسي كماضٍ يرفض ان يموت ولا مجال لتجدده.
خرجت الكلمات آلياً:
ما شاء الله! صارت شيطانتي الصغيرة عروساً؟! ألف مبروك!
انتبه الى سخافة موقفه وتفاهة الكلمات التي نطق بها، فحاول ان يستدرك:
وأنت؟
قالت وهي تنهض لتذهب بغير وداع:
عقبى الفرح لأبنائك، ان شاء الله، ان كنت لا تزال تعرف معنى الفرح.
لحق بها الى الباب، حاول ان يستوقفها، وتأتأ ببعض كلمات الاعتذار، ثم مد يداً مترددة الى كتفها، ولما لم تلتفت صرخ بها: قفي!
التفتت اليه بنصف وجهها. كانت الدموع تحفر خطين رماديين فوق ورقة الورد التي يتهددها الذبول.
وشعت ابتسامتها طليقة وهي تتمتم:
ها أنت ذا حيّ، ها أنت ذا حي.. كنت واثقة من انك تغطي نفسك بالرماد للتمويه. كنت اعرف أنني باقية فيك. ألن تأتيني بالفرح؟
واقترب يمسح الدمع برموش عينيه.

 

إيقاع فردي

انطلق الجسد عفياً، وأطلقت توتراته شحنات كهربائية كثيفة في جو الغرفة المزدحمة بالرغبات المقموعة.. ولهث اللحن المسجل خلف الجسد المتلظي شهوة، يحاول ان يتسلقه فتعجزه الاندفاعة المتقطرة لذة.
انعطفت فانعطفنا، مالت فمال كل خلٍّ على خلّه، تثنت فتثنى الجمع المتوغل داخل غابة الآهات المبشرة باللذة الموعودة.
تقصّف جسد الأنثى فتقصّفت نظرات الجمهور الذكري وتبلبل الايقاع بعدما تراخت الأكف وسقط التصفيق كعنصر إثارة.
تخفّت فصارت فراشة، وأعاد كل تشكيل وجهه ليغدو زهرة، لعلها ترغب في رحيقه.
تحزمت بالشال الطويل، فانكمش الثوب وتهدل وانتفخ في مواضع كثيرة، لكن الكل رآها عارية وتشهّى لحمها المندى بعرق الحرية.
ازعج النور العيون فامتدت الايدي تطفئه إلا اقله، فتزايدت حدة البصر حتى عند الذين تتلصص نظراتهم من خلف نظاراتهم السميك زجاجها.
ازعجت العيون الجسد، فأمرت الاصابع الاجساد الاخرى بأن تنزل الى الحلبة فنزلت حتى اختفت الحلبة.
مرقت الفراشة من بين اسراب الزنابير والهوام، تحف بها العيون والانفاس الحرى، ثم خاف عليها الخائفون (من غيرهم) فداروا اللهفة في احاديث مفتعلة تذهب بها الجمل المقطعة والتي يضيع معظمها في ثنايا الأفواه الجائعة.
جاء أوان الزلازل على دوي طبول الرقص الحديث، فهربت الفراشة الى الهواء الطلق، وعلى الشرفة كان ينتظرها بدر مكتمل الاستدارة، فمد عبر الفضاء يده لكي يمسح عرقها ويسلمها ورقة فيها العنوان الجديد للزهرة المفتقدة.

 

حوار مبتور

قالت المرأة للسيدة: لا يكفينا هذا القناع.
ردت السيدة على المرأة: ما كان قناعاً هو الآن وجهي!
قالت المرأة للسيدة: لكِ وجهي، فمزقي ذاك.
ردت السيدة على المرأة: لا يكفينا وجه واحد.
قالت المرأة للسيدة: كيف، اذاً، يكفينا جسد واحد؟ إما ان تأخذي وجهي او آخذ منك جسدك.
في الغد عثر رجال الشرطة على جسد بلا وجه، وعلى وجه بلا جسد يكمل ملامحه، فكتبوا في سجلاتهم: قبضنا على رجل مجهول الاسم له هواية تقطيع ضحاياه.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لا تعرف له مهنة غير الحب:
احفظ شبابك في امرأتك! ان هي استشعرت ان حمى الشباب تغادرها جعلتك عجوزاً تتوكأ على كوعيك ويهدّك سعال الشيخوخة!

قرأ على وجهي شيئاً من الحيرة فعاد يوضح مقصده:
لا ترحم المرأة من يعاملها بعمرها. المرأة بقلبها لا بسني حياتها. ولأنك حياتها، فهي تحمي شبابها فيك، فأعطها قلبك ولا تعطها عمرك فتشيخ وتكرهك لأنك الموت.

 

آخر الكلام

} سمعت اسمك في لقاء مفتوح، فالتفت الى من نطقه باسترابة، وحين تحققت من تراكم التراب فوق وجهه اطمأننت الى انه لا يتقن القراءة، وتعجز عيناه الكليلتان عن التقاط الرعشة في عيني وأنت تلونين الحدقتين فيهما.
} تقول رغبتك ما يعجز لسانك عن النطق به، فإذا امتدت يدك للسلام توحدت اللغة بعد سقوط الكلام.
} همست، وسط الجمع: انظر الى غيري، فحيث تقع عيناك من وجهي تتفتح وردة.
وردّ بصوت أراده مسموعاً: احب كل الورد، ولكنني لا اتعطر إلا من حديقتي.

Exit mobile version