طلال سلمان

فواد سنيورة في دمشق اخوة مصالح ومنافع اولا

نجح فؤاد السنيورة في تخطي الألغام والحواجز الكثيرة، وفيها النفسي العاطفي والمادي العملي، وهو يقطع مسافة المئة كيلومتر الفاصلة بين بيروت ودمشق وكأنها أطول رحلة في حياته.
ولعله كان يتساءل، طوال الطريق: هل انفتح، أخيراً، باب الكلام المسؤول، بين العاصمتين، بعد عواصف العواطف المستثارة بالخيبة وعواصف الأحقاد التي لها مشاريعها السياسية المضادة، حتى يمكن الحديث عن »مرحلة جديدة«؟!
كان قد سمع كل ما أطلق في بيروت من شعارات ثأرية، وكل ما صدر عن بعض من في دمشق من ردود أخذها الانفعال بعيداً عن الأخوة والعروبة والرغبة في استنقاذ الغد..
كان يعرف أن المسافة بين العاصمتين قد باتت فلكية بعدما تبدى، في فترة، وكأن كبراهما قد ألغت الصغرى أو أنها أغرقتها بعناوين براقة مثل »الأخوة والتعاون والتنسيق« والتي لم تظهر ثمارها المرتجاة للشعبين… وأن استعادة القرب، وصلات القربى، تتطلب الكثير من الصبر ومن تجاوز الشعور بالخيبة وانهيار الآمال التي عُلقت على »النموذج« المرتجى بين الدولتين اللتين تفرض الضرورة أن تتكاملا، والذي انتهت التجربة بانفجاره..
وكان يدرك أن أمواج العداء لسوريا التي تراكمت عبر سنوات الإدارة السورية للشأن اللبناني، وبلغت ذروتها مع فعلة التمديد ثم تفجرت غضباً أسود مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قد تحولت إلى استثمار مجز لكل أعداء العروبة في لبنان (قبل سوريا)، فعززت منطقهم الانفصالي، بينما الجمهور القابض على جمر عروبته هو المتضرر الأكبر من العلاقة الشوهاء بين النفوذ السوري وأهل السلطة في بيروت.
ولقد انفجر هذا الجمهور بالغضب لأنه خسر في لبنان ثم خسر سوريا، لأن الإدارة السورية طالما تجاوزته اهمالاً أو اعتماداً على ان عروبته خياره قبل ان تكون قدره، لتسترضي خصومه أو لتمثله بالاطوع والأعظم انتهازية، فلما جاء الجد اختفى هؤلاء جميعاً وهربوا من الشارع الذي امتلأ بالغرائز المستثارة.
كانت خيبة الأمل هي الأعظم حضوراً منذ 14 شباط: لقد سقط المثال النموذج، مخلياً الساحة لمنطق الانعزال الذي سيتحول إلى منطق طائفي ومذهبي بالضرورة؟!
* * *
من أين يبدأ الكلام، بعد القطيعة التي امتدت دهراً، والتي تحولت إلى استثمار مجزٍ للانفصاليين في البلدين؟!
لعل القيادة السورية كانت بحاجة إلى مسؤول لبناني رفيع المستوى لديه القدرة على تجاوز مشاعر الغضب والخيبة والاحساس بالفقد، لينبه إلى خطورة استمرار هذه القطيعة التي يمكن لهؤلاء الانفصاليين ان يغطوا بها أحقادهم وأغراضهم وعداءهم للعلاقة المميزة بادعاء السعي للثأر للرئيس الشهيد.
ففؤاد السنيورة، القريب من آل الحريري بحيث تستحيل المزايدة عليه في الوفاء لقائده ومثله الأعلى والذي يعرف ثوابت رفيق الحريري السياسية، وأهمها علاقة التكامل مع دمشق، هو أفضل من يباشر محاولة تجاوز ما قطع الحوار والجسور (والطرقات) مع دمشق، من دون أن يتهم في بيروت بأنه قد فرط بدماء الرئيس الشهيد، أو يتهم في دمشق بأنه قد جاء يحاسبهم لأغراض سياسية تتخذ من العواطف تمويهاً للأغراض الأجنبية.
إن هذا الرجل ذا الوجه الصعب على القراءة، هو أفضل رسول لمثل هذه المهمة الشاقة والخطيرة. إنه يقدر على الفصل بين المصالح والعواطف، فيتجه مباشرة إلى الموضوع، وبالأرقام، ليصل إلى الاستنتاج البديهي: لا مصلحة للبنان، ولا مصلحة لسوريا، في القطيعة. لا مصلحة للبنان في الالتحاق بالغرب، وسيبقى عربياً، وبالطبع فهو لن يصمد إذا ظل »قلب العروبة النابض« في دمشق يستعديه، أو يطارده في مصالحه، ويزكي منطق الطائفيين الكيانيين الانعزاليين فيه، بذريعة الانتقام التي تفجرت غضباً من فشل الإدارة السورية، والتي استثمرها كل قادر على استثمارها ضد لبنان وسوريا معاً.
لعلها محطة ممتازة لمباشرة مراجعة هذه التجربة التي كان يؤمل منها تحقيق إنجاز تاريخي فانتهت إلى فشل مدو… فالأفق الذي كان مسدوداً بالشعارات البراقة التي لا اثر لها على الأرض، قد امتلأ بالهتافات التي أخذها الوجع إلى حدود العنصرية، وأول من دفع ثمن الفشل الخطير كان القوى الوطنية في لبنان، التي لحق بها ضرر فادح، ومثل هذا الضرر أو أكثر لحق بالدور القومي لسوريا وقيادتها.
إنها فرصة لمراجعة نقدية شاملة لهذه التجربة من أجل استنقاذ علاقة الأخوة، ومن مدخل المصالح لا العواطف، فالشعارات لا تطعم خبزاً، ولا تنفع في تمويه الخطأ ولو سكت عنه المنافقون والمستفيدون منه.
***
من أين يبدأ الكلام بين الشقيقين اللذين تبدى خلال الشهور الماضية وكأن خندقاً من الدم بات يفصل بينهما؟
تعرف دمشق أن فؤاد السنيورة الذي يحمل رفيق الحريري في قلبه يستذكر هذا الرئيس الشهيد حيثما تحرك في جنباتها، فطيفه قد رافقه من الحدود إلى الحدود، مروراً بمبنى مجلس الوزراء السوري في »السبع بحرات« إلى »قصر الروضة«، ثم إلى حيث تناول الغداء، ولاح له مرفرفاً فوق بيوت أصدقاء ومكاتب لمسؤولين طالما التقاهم فناقشهم فأقنعهم أحياناً، وأقنعوه غالباً.
على أن طيف الرجل الكبير كان الحاضر شبه المرئي في لقائه والرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، الذي ظل رفيق الحريري يجاهر بالحرص على صداقته ويتمنى له النجاح في زمنه الصعب، ويحرص على عدم التعارض معه حتى يومه الأخير.. وإن كان ذلك كله لم يمنعه من التساؤل عن السبب في ما أقدمت عليه السياسة السورية من خيار (لا سيما في أمر التمديد) وهل يخدم سوريا فعلاً، قبل لبنان، أم انه يدخلها في مواجهة مع أعتى القوى الدولية ومع نزعتها المعلنة إلى الهيمنة المباشرة وبالقوة على المنطقة، خصوصاً أن القرار 1559 كان على طاولة مجلس الوزراء في تلك الجلسة الاستثنائية بقصرها ومرارتها حين تم التصويت على التمديد؟!
لا بد أن طيف رفيق الحريري قد ظلل هذا اللقاء الأول بين الرئيس بشار الأسد وفؤاد السنيورة، الذي يعرف تماماً انه صار رئيساً للحكومة بقوة الوفاء لقائده الذي رفعه استشهاده إلى منزلة القادة المخلدين وجعل من صورته »تأشيرة دخول« إلى جنّة الحكم لمعارضيه قبل مناصريه بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية (والأمنية) جميعاً..
ويمكن لأي إنسان ان يتخيل قراءة الحوار بين مسؤولين يظللها طيف غائب كان غيابه بين دواعي هذا اللقاء.
* * *
من أين يبدأ الكلام بين الدولتين المتكاملتين اللتين عاشتا في الفترة الأخيرة حالة شبه حربية، عكست ذاتها على المسلك الرسمي كما على منطق معالجة الأزمة التي عصفت بالعلاقات الأخوية فكادت تجعلها استثماراً مجزياً لتبرير التدخل أو الضغط الدولي على طرفيها، وإن ظل الأصغر أعظم تأثراً بها؟!
لعل فؤاد السنيورة كان الخيار (اللبناني) الأفضل لمن يتولى تحرير الكلام السياسي من قيوده العاطفية، سواء تلك الإنشائية التي كانت تكثر من تعابير الأخوة والتكامل ووحدة المسار والمصير، أو تلك التي استجدّت فطغت وحكمتها تعابير السيادة والاستقلال والحرية والديموقراطية والوحدة الوطنية، ولكنها ظلت تحمل في طياتها شبهة الكيانية ذات العمق الطائفي، والانعزالية التي تحمل دمغة العنصرية.
ففؤاد السنيورة قد عاش عمره بين الأرقام، وهو يتمتع كما يصف نفسه بمزايا »أمين الصندوق«، وبالتالي فهو يقدم ما هو مادي وحسي على ما هو عاطفي وإنشائي… وحتى في
موضوع عروبته فإنه يقدم الفوائد والمنافع، على الشعارات المطلقة. ولكل كلمة في منطقه ترجمتها العملية: فالأخوة والتعاون والتنسيق مصالح أيضاً، بل هي مصالح أساساً، فإذا تم ضرب هذه المصالح أو تعطيلها، فإن الخطب والتصريحات بكلماتها المضخمة والمفخمة الدوي لا تنفع في التغطية على الفاجعة أو تمويهها.
ومؤكد ان القيادة السورية توقفت في مراجعتها للتجربة الهائلة الغنى والبؤس لعلاقتها مع لبنان، والتي شملت مختلف المجالات وبأرجحية سورية دائمة من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الأمن إلى الاجتماع أمام واقع ان كل تلك الاتفاقات، وكل تلك اللقاءات على مستوى القمة أو على مستوى الحكومتين لم تصمد لحظة واحدة عندما وقعت تطورات سياسية مؤثرة بدلت المناخ السائد.
إن أول فوائد هذه الزيارة، ان »بطلها« السنيورة لا يحب الكلمات الكبيرة ولا يجيد استخدامها، وأنه »واقعي جداً«، وأنه يفضل الأرقام على الشعارات، وأنه ليس سياسياً محترفاً، وليس طامحاً إلى دور سياسي بالمعنى الشعبي، الانتخابي يعرف أنه لم يخلق له… وأنه أولاً وأخيراً ابن صيدا، الناشئ في ظل المد القومي، والذي أتى إلى السياسة من باب حركة القوميين العرب، قبل أن ينصرف الى العمل في المصارف التي تظل أرصدتها »عربية«.
ثم إنه يعرف أنه في الموضوعات الحساسة والمثيرة »الوكيل« وليس »الأصيل«، وأن الكلمة الأخيرة في أخطر ما يشغل بال اللبنانيين والسوريين، ليست له، وأنه ليس مفوّضاً بأن يصدر أحكاماً لا بالبراءة ولا بالإدانة..
ولكنه في ما يتصل بالعلاقات بين البلدين »موفد ممتاز« لا يُحابي ولا يخرج على عروبته، خصوصاً أن بعض لحمه قد أكل في جلسات المناقشة قبيل منحه الثقة، وقد نهش لحمه أولئك الذين يستخدمون صورة الرئيس الشهيد لإخراج لبنان من جلده، بالادعاء أن العروبة هي القاتلة بينما العروبة هي التي طالها القتل في لبنان كما في سوريا.

Exit mobile version