طلال سلمان

فلوجة جنين فاين بورسعيد

كأنما بات على الكيانات العربية أن يصنع الاستعمار، بنسخته الإسرائيلية القديمة أو بنسخته الأميركية المنقحة والمزيدة، مستقبلها السياسي، بدءاً بطبيعة النظام وحدود الكيان وانتهاءً بهوية الشعب وانتمائه الوطني قبل القومي.
من فلسطين إلى العراق وبالعكس أجرى الاحتلال إسرائيلياً وأميركياً ويجري التجارب طلباً للعثور على الصيغة المناسبة للتعامل مع هذه الشعوب المتخلفة التي اعتادت القهر حتى أدمنته، والمخضعة غالباً بقوة الحديد والنار، ومن ثم مستقبل العلاقة معها.
ليس لفلسطين دولة. إن دولتها حتى إشعار آخر هي إسرائيل.
وليس للعراق دولة. إن دولته حتى إشعار آخر هي الولايات المتحدة الأميركية.
وطالما قد تأكدت »وحدة القرار« الأميركي الإسرائيلي، تجاه العرب، سواء أكانوا فلسطينيين أم عراقيين، كما تبدى جلياً خلال اللقاء التاريخي بين جورج بوش وأرييل شارون.
وطالما أن الاعتراض العربي على هذا التطور الدراماتيكي في العلاقة بين العرب بأنظمتهم وبين التحالف بل التوحد في القرار بين الإدارة الأميركية والحكومة الشارونية، ظل محدوداً وقاصراً على دولتين هما سوريا ولبنان وبعض التنظيمات الشعبية، الفلسطينية في الغالب…
وطالما أن رئيس مصر، الذي كان ضيفاً حميماً على الرئيس الأميركي في مزرعته بتكساس، قد تجرع كأس السم من غير اعتراض، وحين تبلّغ بالأمر اكتفى بالقول إنه قد شعر »بالصدمة«، ثم أكمل جولته على المنظمات اليهودية والإدارات الأميركية طلباً للمساعدات والهبات والقروض،
وطالما أن ملك الأردن ذاهب غداً أو بعد غد ليقرر قبوله بالقرار التاريخي للرئيس الأميركي بشطب فلسطين، أرضاً وشعباً وقضية،
وطالما أن سلاطين العرب يهربون من القمة (العادية) حتى لا تضطرهم التطورات إلى اتخاذ موقف قد يكلفهم تيجانهم،
… إذن فلا خوف من أن يلقى »الوعد« الأميركي الجديد لإسرائيل بأن تكون هي، وهي وحدها، »الدولة« في منطقة الشرق الأوسط، قبل توسيعه، صداً يجهضه أو يسقطه أو يجعله مجرد »زلة لسان« جديدة يرتكبها الرئيس الأميركي الذي ندر أن نطق بما هو مفهوم أو مقصود بذاته.
* * *
إن المشهدين يتكاملان حتى بالتفاصيل، في أنحاء العراق كما في أنحاء فلسطين، فلا تكاد تميّز الضحية من الضحية، ولا المحتل الأول المندفع في هجومه حتى قتل الأشخاص والبيوت والشجر والمدارس والمياتم والمساجد، وكل شيء حي، من المحتل الثاني.
يكفي شيء من التبادل في الأسماء: الفلوجة تصير جنين، مثلاً، وسامراء تصير طولكرم مثلاً، والنجف مع كربلاء والكوفة تصير غزة ورفح وخان يونس.
للشهيد هنا وهناك الملامح نفسها: الوجه أسمر، والعينان تنضحان بالعزم على المقاومة، والفتى يكتب وصيته من قبل أن يقبله تنظيمه للقيام بعملية ضد جند الاحتلال… ثم إن للشهداء الأسماء ذاتها، وكلها مقدس قبل الاستشهاد وبعده.
أما جند الاحتلال فلهم الملامح نفسها، والملابس نفسها، وفي أيديهم الأسلحة نفسها، وهم يتنقلون بالدبابات ذاتها، وتحمي تقدمها الطائرات الحربية نفسها والحوامات نفسها…
* * *
حتى انفجار الفلوجة بمحاصريها من جند الاحتلال، كانت للعراق صورة المقتول مرتين: مرة بطاغيته صدام حسين، والثانية بالاحتلال الذي اتخذ من إزاحة الطاغية ذريعة لعدوانه، كاذبة هي الأخرى مثل أسطورة أسلحة الدمار الشامل.
مع صمود الفلوجة التي تبدت في لحظة وكأن أهلها المحاصرين هم كل العراقيين، وبعده ستكون للعراق صورة أخرى: صورة الشعب الذي لم يستطع الطاغية تقسيمه بالمجازر والممارسات العنصرية والطائفية، والذي يكاد الاحتلال ينجح في تجديد وحدته على قاعدة المقاومة الوطنية.
ستكون للفلوجة، بعد اليوم، صورة بورسعيد التي قاتلت كطليعة حتى الاستشهاد لتنتصر مصر على العدوان الثلاثي في العام 1956.
ستكون للفلوجة والكوفة وكربلاء والنجف والحلة والناصرية وبغداد بضفتيها والقلب، ملامح رفح وخان يونس وغزة، نابلس وطولكرم وقلقيلية، جنين ورام الله وبيت لحم التي »تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء«…
ستكون الفلوجة التي باتت اسماً مضيئاً لجميع المدن في أرض السواد، عنوان العراق الجديد.
وليست معركة الفلوجة البداية الفعلية لإسقاط الاحتلال الأميركي وتحرير العراق، ولكنها ستدرج بالتأكيد ومعها حركة مقتدى الصدر والانتفاضات والتململات المتعددة في أنحاء مختلفة من أرض الرافدين بين مقدمات استعادة الوعي بالذات بعد تلاشي آثار صدمة انتقال البلاد من طاغية محلي كان يرفع الشعارات المزورة للوحدة والحرية والاشتراكية إلى طاغية أجنبي جاء يرفع شعارات مزورة للديموقراطية والدستور والإصلاح على الدبابات ويرمي حقوق الإنسان بصواريخ الأباتشي والأف 16 على الطريقة الإسرائيلية.
لقد أسقطت معركة الفلوجة، بغض النظر عن هوية المقاومين فيها، مجموعة من التصنيفات والتقسيمات للشعب الواحد إلى طوائف ومذاهب وعناصر وإثنيات مشتبكة أو مهيأة للاشتباك في فتن وحروب أهلية بلا نهايات لولا »نعمة« الاحتلال الذي جاء فاعترف بالجميع… ليلغي العراق كوطن والعراقيين كشعب واحد، هويته عربية أصيلة بغير تعصب أو تعالٍ على شركائه في الدولة والمصير، بغض النظر عن أعدادهم ومعتقداتهم.
أسقطت الفلوجة »المثلث السني« لتعيد التوكيد على هوية العراق كوطن.. وكانت تلك التسمية نموذجاً »لأسلحة الدمار الشامل«
الأميركية، إذ فصلت الكف عن الذراع والقلب عن الصدر والرأس عن الكتف، كما حاولت أن تعزل »الجنوب الشيعي« عن بغداد الرشيد التي حاولت أن تقطّعها مربعات بحسب مساجدها والكنائس، وأن تقيم من البيشمركة وأحلاف مجلس الحكم لصاحبه بريمر سدوداً تمنع أهلها عن أهلها، وتعزلها عن غربها وشمالها وشرقها والجنوب ليكون الاحتلال هو الرابط وهو الملاذ الأخير للعراقيين الذين لا يجتمعون إلا في أفيائه، كما لم يتحرروا إلا بفضله.
ليس المقاومون في الفلوجة هم قادة ثورة التحرير،
وليس مقتدى الصدر جيفارا العراق،
ولكن عراق اليوم، بعد سنة من الاجتياح الأميركي، يكاد يستعيد صورته الأصلية: إنه شعب مقهور بقوة الاحتلال الأجنبي، يباشر إعلان رفضه لهذا الاحتلال الذي لم تنفع شعارات الديموقراطية والإصلاح والعدالة في تمويه حقيقته التي اضطر لتأكيدها بالصواريخ وقذائف الدبابات، فهدم البيوت ودمّر المدارس والمساجد وخزانات المياه ومحطات الكهرباء، وقتل الأطفال، وشرّد الأهالي في عراء البرد الصحراوي.
* * *
المشهد العراقي فلسطيني بالتفاصيل كما بالجوهر.
والمحتل الأميركي يكتسب كل لحظة المزيد من الملامح الإسرائيلية حتى لتكاد العين تخطئ في تحديد الهوية الأصلية لجندي القتل الآتي من غابة الصهيونية أو المسيحية الصهيونية لكي يعزز »حقوق الإنسان« في صحراء التخلف العربي.
العراقية النائحة فوق قبر ابنها الشهيد فلسطينية الملامح، بالوجه المغضن بالقهر وثياب الحداد والالتصاق بالأرض حتى لكأنها بعضها.
.. والعراقي الذي يحاول التصدي للأباتشي برشيشه، وللأف 16 بقبضة يده يكاد يكون هو هو الفلسطيني في غزة بني هاشم أو في جنين التي صارت عنواناً للصمود، يستمد من ضعفه قوة ومن استفراده مناعة المكلف الدفاع عن شرف الأمة… يحفر القبور للأعزاء الذين سقطوا، وقد يبكيهم وهو يودعهم، ولكنه يتعهّد لهم بأنه سيكمل ما بدأوه طلباً للتحرير.
الفتى في بغداد، في الفلوجة، في كربلاء، في الموصل، في النجف، في الكوفة، في الرمادي، سيلف الكوفية حول عنقه ويحاول أن يقرّب صورته من صورة قرينه الفلسطيني ويكاد يستعير منه هتافه الذي يتوحّد فيه الوطن بالله.
لقد بدأ العراقيون رحلتهم المباركة، الشاقة والمكلفة دماً وجهداً، نحو استعادة حقهم في بلادهم، والنموذج الفلسطيني في قتال الأقوى (بما لا يقاس) ومجاهدة الفتنة، يشع أمامهم ويهديهم بقدر ما يتعزز بجهادهم المتعاظم.
على أن الجميع الذين طالما تغنوا بصمود بورسعيد يفتقدون بورسعيد وسائر مصر بل سائر العرب الذين »ولدوا« في بورسعيد ثم ضاعت منهم أو ضاعوا عنها.

Exit mobile version