طلال سلمان

فلسطين ولبنان في دمشق اولوية انتفاضة في »الشارع« لا في قمة

تركنا بيروت وهمومنا الثقيلة فيها، إلى دمشق للقاء المناضل العربي الفلسطيني عزمي بشارة: كنا بحاجة إلى نفحة من الهواء النقي.
كان لا بد أن نمر بضهر البيدر وآثار الغارة الإسرائيلية على المرصد السوري تقدم بالمحسوس صورة الصراع في هذه اللحظة السياسية، بأطرافه جميعا، وأبعاده الخطيرة التي تتخطى النطاق المحلي لتصل إلى العواصم البعيدة، وإلى واشنطن بالذات التي غادر موفدها دمشق قبل ساعات فقط، وبغير ما جاء يطلبه، ولكن بما كان يجب أن يسمعه.
لم نكن بحاجة إلى من يؤكد لنا أن المرصد سيعاد بناؤه وتحصينه، فتلك بديهية في ظل هذا الصراع المفتوح والذي لا يمكن تمويه طبيعته: الصراع العربي الإسرائيلي، والذي يفرض نفسه على قراءة أي حدث، مهما تبدى »محليا«،
»الأرض« تفرض نفسها دائما ليس باعتبارها »ساحة الصراع« بل هي موضوعه ومحرّكه، في فلسطين كما في لبنان وفي سوريا، ولا يمكن أن تطمسها كل المناكفات أو المنازعات أو المنافسات السياسية، حتى لو تم تمويهها أحيانا باختلاف النظم أو بالحساسيات الطائفية أو المذهبية الخ…
وفي الحوار مع من تيسر لقاؤه من المسؤولين السوريين كان لا بد من التركيز على »جوهر المسألة«، حتى ونحن نتعرض إلى الهموم اللبنانية المنهكة التي تكاد تسد علينا الأفق لشدة انشغالنا بها وفيها، والتي لا تتجاهلها دمشق ولكنها تنظر إليها من خلال »الصورة الشاملة« للمنطقة والتطورات فيها، خصوصا وأن »سوريا مستهدفة«، ولكنها تواجه عبر حسابات دقيقة للاحتمالات كافة.
ببساطة: لبنان ليس الموضوع الأول، ولا طبعا الأخطر، على جدول الأولويات السورية، مع التسليم بضرورة الاهتمام الجدي بما يجري ويقال فيه بمجمله، وبمعزل عن العواطف وعن ردود الفعل العصبية على ما يوجه إلى دمشق من اتهامات.
أبرز ما يتميز به عزمي بشارة وضوح الرؤية: لا أوهام ولا توقعات من خارج السياق العام للأحداث والقراءة الدقيقة للظروف وللقوى وللرجال المؤثرين فيها، وبالذات في إسرائيل، وأرييل شارون أولا، بطبيعة الحال.
يتفق عزمي بشارة مع القيادة السورية في الجزم بأن شارون بلا مشروع سياسي. مشروعه الوحيد هو: الأمن لإسرائيل. وما يعلنه هذا الجنرال السفاح والذي رفعه التطرف بجذوره العنصرية إلى سدة السلطة هو بالفعل ما يفكر فيه. ليس لديه ما يقدمه للفلسطينيين غير دويلة تافهة على أقل من خمسين في المائة من مساحة الضفة الغربية، بلا سيادة ولا جيش ولا حدود مع غير الكيان الإسرائيلي، مع مفاوضات مفتوحة على مراحل بغير نهاية على الجزئيات، واستبعاد كلي لجوهر الصراع ومن ثم لجوهر المطالب الفلسطينية ولو بحدها الأدنى، والعصا لمن عصا.
يسهل الاستنتاج، من ثم، ان التضييق اليومي، بل والقتل اليومي للفلسطينيين وحصار التجويع المفروض، والضغط العسكري المتواصل والذي لن يتوقف، يستهدف إجبارهم على التسليم أو دفعهم في اتجاه الخروج من فلسطين في عملية »ترانسفير«، ربما تبدت بعض معالمها في محاولة الترويج لمنطق أن المستوطنات إنما أقيمت وتقام لإيواء اللاجئين اليهود الذين شردوا من الأقطار العربية، وأن على هذه الأقطار أن تقبل أو تجبر على قبول المزيد من اللاجئين الفلسطينيين إليها، وكأنها عملية »تبادل سكاني«…
وتطل الريبة عند ذكر المشروع الذي روجت له بعض الأوساط الفلسطينية مؤخرا والقاضي بأن تستقبل أقطار الخليج العربي مائة وخمسين ألف عامل فلسطيني فقدوا أعمالهم في إسرائيل، وبالتالي فقدوا موارد رزقهم، ومن ثم فإن توفير فرص عمل في أقطار النفط التي هي بحاجة إلى اليد العاملة يدعم صمود الفلسطينيين في أرضهم، وحتى لا تجوع أسرهم، ومن ثم تضعف الانتفاضة حتى التلاشي.
يجزم عزمي بشارة: الانتفاضة سوف تستمر، وفلسطينيو الداخل قادرون على الصمود، لكن على العرب دعمهم معنويا وماديا..
وكيف يكون الدعم، وهل قصر العرب؟!
يأتي الجواب: نعم، واخطر ما جرى هو اخراج الجماهير من الشارع.، وترك الامر مرة اخرى للحكام.
نستذكر معاً ان القمة الطارئة في القاهرة كانت محاولة ناجحة من الانظمة للالتفاف على الغضبة العربية العامة، باظهار استعدادها لتحمل مسؤولياتها في دعم الانتفاضة والجماهير قد ادت قسطها للعلى… وان نتيجتها المباشرة كانت اقفال الشارع وتعطيل تأثيره على القرار السياسي.
اما القمة الثانية في عمان فكادت تنشغل كلياً بموضوع العراق الكويت، (بناء للضغط الاميركي، وفي محاولة للتهدئة مع شارون) وتهمل الموضوع الفلسطيني.
واذا كانت القمة اعجز من ان تواجه شارون فكيف ستواجه الولايات المتحدة الاميركية… اما الجماهير ففي موقع مختلف تماماً، وهي مستعدة للمواجهة وتحمّل تكاليفها توكيداً لايمانها بوحدة القضية.
نتوقف امام موقف سوريا كما طرحه الرئيس بشار الاسد في القمتين بوصفه مصدراً للامل، اضافة الى تأكيده على امكان المواجهة.
ثم نتوقف امام الموقف القوي والحازم الذي ابلغته دمشق الى واشنطن، وعلى اعلى مستوى، والذي يتجاوز حماية الكرامة الوطنية الى اعادة تظهير طبيعة الصراع ومواقف القوى المؤثرة فيه، والوعي بحقيقة المشروع الشاروني والاستعداد للتعامل معه انطلاقاً من هذا الوعي.
ودمشق التي فتحت ابوابها وذراعيها لاستقبال ياسر عرفات وفتح صفحة جديدة معه، تستريب الان في كونه سيجيء اليها، وتخشى ان تصبح »زيارتها« ورقة مساومة لحكومة شارون، وللاميركيين، اكثر منها خطوة في الاتجاه الصحيح نحو مسؤوليات المواجهة المفتوحة والمفروضة فرضاً،
مع ذلك فابواب دمشق ستظل مفتوحة لياسر عرفات،
.. وهي مفتوحة ايضاً للبطريرك الماروني الكاردينال صفير اذا ما جاءها للمشاركة في استقبال البابا، الذي اعدت له دمشق برنامجاً حافلا ومدروساً بعناية ليعكس ايضاً طبيعة الصراع المفتوح الذي فرض على المنطقة ان تعيش في ظله منذ اكثر من نصف قرن، والذي سيظل مفتوحاً على المخاطر حتى يقضي الله امراً كان مفعولا.

Exit mobile version