طلال سلمان

فلسطين سلطة جحيم

دفع العرب، من رصيدهم الفلسطيني، مرغمين، »القسط الأول« من الغرامة الإسرائيلية التي فرضتها عليهم واشنطن نتيجة »تورطهم«، بهذه النسبة أو تلك، في المستنقع الأفغاني تحت عنوان أسامة بن لادن، وهم ما اندفعوا إليه أصلاً ولا قاربوه إلا بالطلب وتحت الرعاية الأميركية المباشرة.
ولقد تم الدفع بقرار سياسي معلن، لم يعترض عليه أحد، اتخذه مجلس جامعة الدول العربية الذي انعقد على مستوى وزراء الخارجية العرب، أمس الأول (الخميس) في القاهرة.
كان ذلك شرطاً أميركياً معلناً… وبرغم الانصياع لمنطوقه فما زال »الحساب« مفتوحاً، إذ ان الناطق بلسان البيت الأبيض طالب عرفات بتقديم المزيد من الأدلة التي تقطع بأنه ليس »بن لادن«، لعل أرييل شارون يقتنع أخيراً فيوقف حربه المعلنة ضد فلسطين أرضاً وشعباً وقضية وسلطة وشرطة، وهي الحرب التي كادت تجد تغطية عالمية توازي تلك التي حظي بها »التدخل الدولي« بقيادته الأميركية في حربه على »الإرهاب«.
قال وزراء الخارجية العرب، مرة أخرى، في بيانهم الذي تطلب عشر ساعات من الجهد لصياغة عباراته الملتبسة: »ان الانظمة أهم من الأوطان وأبقى«.
بهذا المعنى، قال الوزراء العرب ان »السلطة« هي، حتى إشعار آخر، فلسطين، وبالتالي فلا مجال للطعن أو للتشكيك بشرعيتها.
وقالت السلطة المعززة شرعيتها الآن: ان الكفاح المسلح يشكل خطراً على »الدولة« كما تخيلتها الرؤية الأميركية، على لسان الوزير كولن باول… أما ان تمت حماية السلطة وتم تأكيد شرعيتها كممثل وحيد لفلسطين فلربما امكن انقاذ الشعب من مذبحة يلوح شبحها في الأفق فيطرده الوعي، واستنقاذ بعض الأرض من براثن الاحتلال الإسرائيلي ولو إلى حين.
مرة أخرى تفرض »الهدنة« نفسها بديلاً من »الجحيم«.
مرة أخرى يؤكد الفلسطينيون حرصهم على رصيدهم الأعظم: وحدتهم الوطنية.
وبالتأكيد سترتفع أصوات مزايدة تتجاوز السلطة، المدانة من قبل، لتتهم حركة »حماس« وربما »الجهاد الإسلامي« غداً بإلقاء السلاح والخضوع للشروط الإسرائيلية المهينة، بتأثير الرعب من القصاص الأميركي.
لكن سلامة فلسطين، أو ما تبقى منها، شعباً وقضية، هي الرد العملي الذي يفرضه منطق تحديد الخسائر في معركة يتعذر كسبها لألف سبب وسبب أولها غياب القدرة على إدامتها، فضلاً عن انعدام فرص التكافؤ فيها بين القاتل الإسرائيلي المدجج بأفتك السلاح الأميركي والضحية الفلسطينية التي لا تملك إلا دمها.
من السهل القول: ان الانتفاضة الأولى جاءت »بالسلطة« الى الأرض في الداخل،
… وان الانتفاضة الثانية فرضت، بتطورها الذي تجاوز إطارها الشعبي والسلمي الأولي، خياراً مراً بين »السلطة« و»الأرض«..
لكن الحقيقة ان الشعب الفلسطيني الخلاق كان، في كل مرحلة من مراحل كفاحه الطويل، يبتدع اسلوباً جديداً يتناسب مع طبيعة الطور المستجد في سياق المواجهة المفتوحة منذ ثمانين عاماً أو يزيد، مع العدو الإسرائيلي.
لم يبدأ الكفاح المسلح هذا العام، وهو لن ينتهي اليوم أو غداً بقرار تتخذه السلطة أو مجموع »السلطات« العربية، فضلاً عن ان يتخذه الاحتلال الإسرائيلي أو تتخذه الإدارة الأميركية السكرى بانتصارها الرخيص على عدوها الأكذوبة ممثلاً بحكومة »طالبان« الكرتونية في أفغانستان.
ولم تكن الانتفاضة بديلاً من الكفاح المسلح، بل هي شكلت إضافة نوعية للرصيد النضالي الممتاز للشعب الفلسطيني، خصوصاً انها تجديد لأسلوب فعال كان الفلسطينيون من رواده في الثلاثينات من هذا القرن.
وعبر الانتفاضة والآفاق التي فتحتها في أواخر العام الماضي كان ياسر عرفات يسعى إلى ما يشبه »تفاهم نيسان« اللبناني مع الاحتلال الإسرائيلي، وعبر الوسيط الأميركي الذي افترض فيه النزاهة… ولكنه الآن يتواضع في مطالبه فيلح على عودة الجنرال زيني لعله يلزم إسرائيل بوقف اطلاق النار من جانبها، ودائماً تحت سقف تقرير زميله الجنرال تينيت، رجل المخابرات المركزية الأميركية الذي افترض ان حل »المشكلة الأمنية« الإسرائيلية قد يفتح باب الحل السياسي لقضية الشعب الفلسطيني.
أما بالنسبة لحركتي »حماس« و»الجهاد الإسلامي«، وكذلك الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وحتى حركة فتح، فإن الكفاح المسلح في الداخل لم يعتمد إلا كوسيلة للدفاع عن النفس.
وإذا لم تسقط السلطة في فخ التنازل بلا حدود أمام غطرسة شارون، طلباً لسلامتها، فإن الوعي الوطني الفلسطيني سيبقى صمام الأمان لعدم الانجراف مع مشاعر الثأر القبلية نحو مهاوي الحرب الأهلية.
لقد استثمرت إسرائيل بنجاح »ثورة الدم الأميركية« لصالحها في مواجهة الفلسطينيين، مستفيدة من الذعر العربي العام الذي جعل كل سلطان يسعى لتبرئة نفسه ولو على حساب الأمة جميعاً، بمن فيهم أهل بيته.
لكن هذا المناخ الذي اطلقته تفجيرات 11 أيلول لن يستمر الى الأبد، وتماهي المصالح الاستراتيجية الأميركية مع اغراض الاحتلال الإسرائيلي لن يدوم، إذا ما استعاد العرب بعض وعيهم وبعض علاقتهم بالسياسة والقدرة على قراءة خريطة التحولات في دنيا ما بعد أفغانستان، في بلادهم أولاً ومن ثم في الدول البعيدة.
ومهما اشتط ياسر عرفات مع جنوحه إلى المهادنة فلن يصل به الأمر إلى تفجير نفسه في شعبه ليرضى عنه شارون… هذا ان رضي!

Exit mobile version